في كل صباح، يقف آلاف الشباب بزيهم الأزرق أو الأسود أمام بوابات الكمبوندات والمباني الحكومية، يحملون على أكتافهم مسؤولية حماية الآخرين، بينما لا يجدون من يحمي حقوقهم.
يتوسع قطاع الأمن الخاص في مصر بسرعة هائلة، وتزداد معه الإعلانات التي تعد برواتب تتراوح بين 6 و9 آلاف جنيه، وساعات عمل محسوبة، وفرص عمل تقدم باعتبارها “مستقرة”.
لكن خلف هذا اللمعان، تختبئ حقيقة أكثر قسوة وهي أن ساعات العمل تمتد إلى 12 ساعة أو أكثر، ورواتب تأتي أقل مما يُعلن، وحقوق أساسية غائبة من الإجازات والتأمينات إلى ظروف السكن غير الإنسانية.
احتجاجات في مشروع “مدينتي”
ظهرت الأزمة إلى العلن مؤخراً بعدما نظم عدد من أفراد الأمن العاملين في مشروع “مدينتي” التابع لشركة الإسكندرية للإنشاءات – إحدى شركات مجموعة طلعت مصطفى – وقفة احتجاجية للمطالبة بتحسين أوضاعهم المعيشية والمهنية، إذ يعملون لمدة 12 ساعة يومياً دون احتساب أي مقابل للعمل الإضافي، ويحصلون في المقابل على رواتب تتراوح بين 6 و8 آلاف جنيه، وبدل وجبة يومي قدره 30 جنيهاً، مما يضطر هؤلاء العمال للإنفاق من رواتبهم على الطعام.
وطالب العمال بزيادة نسبة المكافأة السنوية إلى 90%، وتحويل عقودهم من مؤقتة إلى دائمة.
في شهادة أخرى، يكشف المواطن خالد أحمد أبو مغاتة – في تعليق على أحد إعلانات شركات توظيف أفراد الأمن بموقع فيسبوك – عن جانب مختلف من التجاوزات التي تمارسها بعض الشركات، فبدلًا من تعيين الأفراد بشكل مباشر، يتم تشغيلهم عبر مقاولين بهدف التهرب من الالتزامات القانونية مثل التأمين الصحي والاجتماعي، أو توفير الوجبات، أو منح الإجازات الرسمية.
ويشير إلى أن أحد المشروعات التابعة لشركة طلعت مصطفى في شرم الشيخ يعمل فيه أفراد الأمن بنظام اليومية مقابل 300 جنيه تشمل تكلفة الطعام، بينما يقيم العمال في سكن وصفه بأنه “غير آدمي” لافتقاره إلى الحد الأدنى من الخدمات.
إعلانات مضللة
ورصد المواطن محمد إبراهيم نظمي أبرز المشكلات التي يعاني منها العاملون في شركات الأمن الخاصة في مذكرة نشرها على مجموعات فيسبوك التي تنشر فيها شركات الأمن طلبات التوظيف، وفي مقدمتها عدم الالتزام بالحد الأدنى للأجور، وعدم تطبيق بنود التأمين الاجتماعي والصحي رغم إلزام القانون بها، موضحاً أن بعض المسؤولين من الضباط المتقاعدين بالقوات المسلحة أو الشرطة يستغلون نفوذهم داخل الشركات، ما يؤدي إلى انتهاك حقوق العمال أو الضغط عليهم للاستقالة دون الحصول على مستحقاتهم.
ويعتبر “نظمي” أن الإعلانات التي تنشرها شركات أو أفراد تُعد مخالفة صريحة للقانون لأنها تروّج لفرص عمل لا تطبق الحد الأدنى لحقوق العمال، مطالباً بفرض رقابة تشريعية وإدارية على كل من ينشر إعلانًا وظيفيًا، لضمان الالتزام بقانون العمل.
ويحذر مواطن يدعى وليد حورس في تعليق نشره على فيسبوك من التعامل العشوائي مع الإعلانات المنتشرة على مواقع التواصل الاجتماعي، مؤكدًا أن بعضها “نصب” ويهدف لاستقطاب العمال دون توضيح الشروط.
ويشير “حورس” إلى أن بعض شركات الأمن تتقاضى من عملائها مبالغ تتراوح بين 17 و19 ألف جنيه عن كل فرد أمن، بينما يحصل العامل نفسه على 6 أو 7 آلاف جنيه فقط.
ويضيف أن العمال يتعرضون لخصومات وغرامات في حال رغبتهم في الاستقالة، مثل خصم 5 أيام من الراتب في حالة الاستقالة الفورية، أو 500 جنيه في حال تقديم الاستقالة القانونية.
تؤكد هذه الشكاوى مقطع فيديو متداول عبر فيسبوك لأحد المواطنين يوضح أن شركة “بروسكيور” المتعاقدة مع هيئة البريد المصري تمنح أفراد الأمن الذين توظفهم لصالح البريد راتباً يبلغ 4 آلاف جنيه فقط، رغم أن التعاقد مع الهيئة ينص على مبلغ يقارب 10 آلاف جنيه لكل فرد.
ما يضمنه القانون للعاملين
ينص قانون العمل رقم 14 لسنة 2025 على مجموعة من الحقوق الأساسية للعاملين، وعلى رأسها الإجازة السنوية التي تبدأ بـ15 يوماً في السنة الأولى وتصل إلى 30 يوماً بعد عشر سنوات من الخدمة، بينما يحصل من تجاوز الخمسين عاماً أو من لديه إعاقة على 45 يومًا.
كما يحدد القانون الحد الأقصى لساعات العمل بـ8 ساعات يومياً أو 48 ساعة أسبوعياً، وما يزيد عن ذلك يُعتبر عملاً إضافياً تضاف إليه نسبة 35% نهاراً و70% ليلاً فوق الأجر الأساسي.
ويؤكد القانون كذلك حق العامل في راحة أسبوعية لا تقل عن 24 ساعة متصلة، وحقه في تقديم الشكاوى أو التظلمات دون التعرض لأي عقوبة.
قطاع ضخم ورقابة محدودة
على المستوى الرسمي، يشير الدكتور محمد منظور، عضو مجلس إدارة غرفة القاهرة التجارية ورئيس شعبة شركات الحراسة ونقل الأموال، إلى أن الغرفة ناقشت مؤخراً سبل تحسين أوضاع العاملين في هذا القطاع، خصوصاً ما يتعلق بالتأمينات الاجتماعية وتطبيق قانون العمل الجديد، وذلك ضمن خطة تهدف إلى تنظيم السوق بما يتماشى مع رؤية مصر 2030.
وفي السياق ذاته، يوضح وائل البسيوني، عضو شعبة الأمن والحراسة، أن عدد شركات الأمن في مصر كان قد تجاوز 4000 شركة قبل إصدار قرار رئاسي عام 2015 بمنع عمل الشركات غير المرخصة.
وتشير بيانات شركات متخصصة مثل “رين تك ديجتال” إلى أن عدد الشركات العاملة المرخصة حالياً حوالي 423 شركة.
ويبرز في السوق عدد من الشركات الكبرى، مثل شركة “إيتوس” المملوكة لرجل الأعمال إبراهيم العرجاني، وشركة “فالكون” التي يرأس مجلس إدارتها صبري نخنوخ منذ عام 2023، وهو اسم أثار جدلاً واسعاً في السنوات الماضية.
الوجه الآخر لشركات الأمن الخاصة
وكشف اللواء محمد نجم، الخبير الأمني، عن أن شركات الأمن الخاصة أصبحت بعد ثورة 25 يناير أدوات مشاركة شعبية “لدعم الأمن العام” في ظل التحديات التي واجهت البلاد.
ويشير إلى أن وزارة الداخلية شجعت خلال السنوات الأخيرة على التوسع في إنشاء هذه الشركات لأنها تخفف الضغط عن الأجهزة الرسمية وتساعدها في التركيز على الملفات الأكثر خطورة.
ولفت نجم إلى أن شركات الأمن تؤدي ثلاثة أدوار رئيسية: توفير المعلومات للأجهزة المختصة من خلال تعاون المواطنين، وتعزيز الدعم الشعبي للأجهزة الأمنية في مواجهة “الإرهاب”، إضافة إلى دورها الأساسي في تأمين المنشآت الحيوية مثل البنوك والشركات والفعاليات الكبرى، ومن بينها المباريات الرياضية.
ويشترط القانون رقم 86 لسنة 2015، المعدّل بقرار رئيس الجمهورية رقم 126 في العام نفسه، تحصيل رسوم قدرها 100 ألف جنيه لصالح وزارة الداخلية مقابل منح ترخيص شركة أمن خاصة لمدة ثلاث سنوات.
ويتضمن القانون شروطًا متعددة لمن يعمل كفرد أمن، مثل أن يكون عمره فوق 21 عاماً، وأن يجيد القراءة والكتابة، وأن يكون أدى الخدمة العسكرية أو أعفي منها، وأن يجتاز دورة تدريبية متخصصة.
لكن شهادات العاملين تشير إلى أن جزءاً كبيراً من هذه الشروط يتم تجاوزه أو تنفيذه بشكل شكلي.
ويطالب الحقوقي والمحامي رمضان محمد بتعديل القانون الحالي، معتبرًا أن بعض الرسوم المفروضة غير مبررة، وأن دور وزارة الداخلية يجب أن يقتصر على الرقابة التنظيمية دون تحميل الشركات أعباء مالية إضافية قد تنعكس في النهاية على العمال.