إزالات جديدة.. من يعبث بوجه القاهرة ويمحو ألف عام من تاريخها في صمت؟

تحت ستار حكومي يرفع شعارات زائفة للتطوير عبر توسعات مرورية ومشروعات تحوم حولها شبهات تضارب المصالح، تعود سياسة الإزالات مجدداً للمساس بالتاريخ، حيث لا يزال ضجيج البلدوزر يعلو فوق مناشدات الحفاظ على ما تبقى من وجه القاهرة العتيق.

تكشف وثيقة متداولة، أكدتها اجتماعات حكومية وتصريحات حديثة لمحافظ القاهرة إبراهيم صابر، عن توجه لإزالات جديدة في قلب القاهرة التاريخية، تمحو تراثها وتشوه وجهها الممتد لأكثر من ألف عام، في إطار صفقات مشبوهة تحوم منذ خمس سنوات حول تلك المناطق العريقة، دون الاستماع إلى البدائل أو نصائح المختصين.

العبث بوجه القاهرة التاريخية، المسجلة على قائمة التراث العالمي لليونسكو منذ عام 1979، بدأ كما تذكر تقارير صحفية في يوليو 2020، بهدم مجموعة مقابر تجاوز عمرها 100 عام، بعضها مطل على طريق صلاح سالم، لإنشاء محور مروري.

ووفقاً لشهادة جمعية المعماريين المصريين قبل عامين: “تتعرض جبانات مصر التاريخية لتدمير شامل لم تشهده من قبل خلال 14 قرناً منذ نشأتها، كما لم تشهده حتى فترات الاحتلال الأجنبي أو الحروب أو الكوارث الطبيعية”.

الكارثة الجديدة

ورغم الوعود الحكومية بعدم المساس بالتراث بعد الانتقادات العارمة، تداولت وسائل إعلام ونشطاء وثيقة حكومية قبل أيام تكشف عن حملات إزالات جديدة بأماكن أثرية.

ونقلها الناشط المصري، وائل عباس، عبر صفحته في فيسبوك قائلاً: “إزالات جديدة بالأماكن الأثرية قد تشمل شارع الأزهر وحارة برجوان والبادستان والمعز والسلطان حسن”.

تكشف الوثيقة أن الإزالات الجديدة، المرسلة من مكتب رئيس الجمهورية في 10 سبتمبر 2025، جاءت تنفيذاً لتوجيهات صدرت مطلع الشهر ذاته، خلال عرض موضوعات محافظة القاهرة أمام رئيس الجمهورية، بحضور رئيس الديوان ومستشار الرئيس للتخطيط العمراني ومحافظ القاهرة ورئيس الهيئة الهندسية للقوات المسلحة.

وانتهى الاجتماع إلى استكمال “تطوير منطقة القاهرة التاريخية بالأزهر والحسين وخان الخليلي”، عبر حصر العقارات المطلة على شارع الأزهر من عمارة عوف حتى المشهد الحسيني، وإعادة دراسة توسعة شارعي الأزهر والمنصورية، وتنفيذ أعمال رفع كفاءة شارع سكة البادستان وجزء من شارع المعز كنموذج لتطوير المنطقة.

كما نص الاجتماع على عرض خريطة للإزالات المقترحة لتطوير المنطقة المحيطة بمسجد الحسين وإعادة تخطيطها، وحصر العقارات الثلاثة بحارة برجوان، وتعويض الشاغلين، وتوقيع بروتوكول مع هيئة الأوقاف المصرية للاستفادة من مواقعها المتميزة.

وتضمن الاجتماع أيضاً إزالة العمارات التي تم إخلاؤها بجوار السنترال بمنطقة مسجد السلطان حسن، وسرعة الانتهاء من تنفيذ الإخلاءات المقررة بمناطق إعادة التخطيط (السيدة نفيسة – السيدة عائشة – الإمام الشافعي – صلاح سالم – سيدي جلال – سوق الحمام – مسار شارع الأشرف).

وأكد محافظ القاهرة إبراهيم صابر في أكتوبر الماضي، أن من المقرر إزالة كل العقارات الملتصقة بمسجد السيدة عائشة، مشيراً إلى أن الدولة ستعوض الأهالي بمبالغ أكبر من سعر المتر بالمنطقة، موضحاً أن معظم المقابر التي تمت إزالتها كانت غارقة في المياه الجوفية، وأن المحافظة عوضت الأهالي بشكل منصف، دون أن يوضح أن الإهمال الحكومي كان سبباً في تدهور أوضاعها.

كما تؤكد الوثيقة اجتماعاً آخر بين رئيس الوزراء مصطفى مدبولي ومحافظ القاهرة في 17 سبتمبر الماضي، بحسب بيان حكومي وقتها، تناول متابعة الأعمال الجارية في هذه المنطقة لإجراء ما أسماه ” تطويراً شاملاً كي تكون القاهرة عاصمة سياحية وثقافية وفنية وعلمية، يحظى قاطنوها وزوارها بنوعية فريدة من الحياة”، دون أن يوضح ما إذا كانت الإزالات ستمس الأماكن التراثية والتاريخية أم لا.

مذابح التراث مستمرة

تتزايد المخاوف من المساس بالتراث مع حملات متكررة على مدار السنوات الخمس الماضية طالت معالم وشواهد تاريخية.

ففي أغسطس الماضي، هُدمت مقابر في وسط القاهرة تعود للعصر العثماني، تخص عدداً من البكوات، بينهم مصطفى بك قوللي أميرالاي مجلس الحقانية، الذي يعود تاريخ وفاته إلى عام 1270 هـ زمن حكم محمد سعيد باشا حفيد محمد علي مؤسس الأسرة العلوية، فضلاً عن عدد آخر من الشخصيات التاريخية.

وتشير شواهد القبور المكتوبة بالتركية القديمة إلى تواريخ تزيد على مائة عام، مما يدخلها ضمن حماية قانون الآثار.

وفي أبريل الماضي، هدمت أجهزة محافظة القاهرة قبة ومئذنة ومسجد محمود باشا الفلكي في منطقة الإمام الشافعي، وفق تأكيدات باحثين مستقلين في توثيق مقابر القاهرة التاريخية، بهدف تمهيد المساحة لتوسعات مرورية.

وأكد أحد الباحثين أن هذه الموجة لإزالة المقابر التراثية والمسجلة ضمن قوائم التنسيق الحضاري، والتي بدأت في الأسبوع الأول من مارس الماضي، تعد الأكبر بعد موجة الهدم في العام 2024، مشيراً إلى أنها شملت أيضاً منازل ومقاهي وورشاً بالمنطقة.

ومن ضمن المقابر والأحواش التاريخية المقرر إزالتها: حوش البدراوي باشا، حوش شرارة باشا، حوش عبد الرحيم باشا صبري (والد الملكة نازلي)، مقبرة أحمد باشا تيمور، مقبرة علي بك الكبير المسجلة ضمن الآثار، حوش السيدة نفيسة البيضا، مقبرة سازبل قادِن (زوجة عباس حلمي الأول)، مقبرة خليل أغا، حوش عثمان رفقي، وحوش السلحدار باشا.

كما واصلت أجهزة محافظة القاهرة إزالة مربع جديد من مقابر باب النصر، أقدم الجبانات الأهلية لسكان القاهرة والمواجهة لشارع المعز لدين الله الفاطمي.

وتمتد المنطقة التي تمت إزالتها بطول 120 مترًا من شارع البنهاوي الموازي لسور المعز، بعد أن أزيل نحو 130 مترًا في أبريل 2024 لإقامة جراج سيارات لخدمة رواد فندق طائفة البهرة الذي يُبنى أمام مسجد الحاكم بأمر الله.

وقالت الباحثة في التاريخ المصري سالي سليمان، مؤسسة مدونة “البصّارة” لتوثيق التراث، في أبريل الماضي، إن جبانة باب النصر هي المقبرة التاريخية والرئيسية للقاهرة منذ تأسيسها في القرن العاشر، وهي الأهم لسكان المدينة القديمة سواء من القاهريين أو الوافدين من المحافظات الذين أنشأوا مقابرهم هناك بأسماء قراهم، وكذلك للمتمصرين من أبناء الجاليات العربية والأجنبية.

وأضافت أن جبانة باب النصر تتكون من طبقات أثرية متراكمة، واكتشافاتها لا تنتهي، كما تتميز مقابرها بالمقاصير الخشبية التي ذهب أغلبها بفعل الإهمال، لكن بعضها ما زال قائماً ويحتاج إلى ترميم لا إلى هدم.

وشملت الإزالات أيضاً المقابر المقابلة لـ حوش الباشا (الذي يضم مقابر حكام مصر من أسرة محمد علي)، وقبر الأمير يوسف كمال، مؤسس مدرسة الفنون الجميلة وراعي الفنون، وصاحب الجهود الجغرافية الرائدة في مصر.

عودة زائفة وغضب شعبي

تأتي الإزالات الحكومية رغم وعود رئيس الوزراء مصطفى مدبولي خلال مؤتمر صحفي في أكتوبر 2024، بوقف الهدم في منطقة مقابر الإمام الشافعي وغيرها، مؤكداً احترام المباني ذات القيمة المعمارية، وعدم المساس بأي مبنى ذي طابع فني أو تاريخي، وأن ما حدث من تجاوزات لن يتكرر مستقبلا.

في المقابل، شكلت جهات عديدة مبادرة “إنقاذ جبانات مصر التاريخية”، كما أقام المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية دعوى قضائية مستعجلة أمام القضاء الإداري لوقف الهدم في مناطق الجبانات التاريخية وتوفير الحماية اللازمة لها، وتحديد حرم يضمن عدم الاعتداء على مبانيها التراثية.

وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، عبّر كثير من النشطاء والمواطنين عن غضبهم، مؤكدين أن المساس بتراث القاهرة التاريخية ومقابر رموزها وأوليائها نذير شؤم يحيط بحاضر ومستقبل الحكومة، وأن لعنة التاريخ لن ترحم حكومة البلدوزر، ولن تجد شعارات “التطوير” الزائفة ما يحميها من غضب صون التراث وحمايته.

أضف تعليقك
شارك