قبيل ساعات من انتخابات مجلس النواب 2025، بدأت تظهر مقاطع مصورة تكشف عن ظاهرة شراء الأصوات، تلك الظاهرة التي تتكرر كل دورة انتخابية مقابل مبالغ مالية أو مساعدات للمواطنين، ما يثير مخاوف واسعة حول نزاهة العملية الانتخابية وقدرة الناخب على اتخاذ قراره بحرية وسط غياب رقابة حقيقية.
أولى هذه المقاطع كانت من الصعيد، حيث ظهر الدكتور علي الخطيب – أستاذ بجامعة الأزهر – بوجه غاضب في مؤتمر انتخابي حاشد في محافظة سوهاج، يلوح بيده قائلاً: ” ليه الإنسان يبيع صوته بمائتي جنيه فقط، بينما الجحش يُباع بألفين، والمبلغ لا يكفي حتى لشراء نصف كيلو لحم، فيما وصل سعر كيلو العدس لمائة جنيه”.
وأضاف أن بعض الناس أخذت الأموال مقابل الانتخابات ثم خرجت لتنتخب من تريد، كأن الكرامة صارت سلعة تُشترى بالقليل من النقود.
وحذر المواطن من أن من يبيع صوته اليوم يخسر احترامه وضميره، بينما المرشح بعد ذلك قد يدّعي نجاحه بأمواله فقط، مؤكدًا أن الفقر لا يبرر التفريط بالكرامة.
وصباح يوم الاثنين 10 نوفمبر انطلقت المرحلة الأولى من الانتخابات والتي تستمر لمدة يومين، داخل 5606 لجان فرعية موزعة على 70 لجنة عامة في 14 محافظة، تشمل الجيزة والفيوم وبني سويف والمنيا وأسيوط والوادي الجديد وسوهاج وقنا والأقصر وأسوان والبحر الأحمر والإسكندرية والبحيرة ومرسى مطروح.
ويتنافس 1281 مرشحاً في المرحلة الأولى، بينما تم تخصيص 142 مقعداً لنظام القوائم في شمال ووسط وجنوب الصعيد وقطاع غرب الدلتا، حيث ترشحت قائمة واحدة تحت اسم “القائمة الوطنية من أجل مصر”.
شراء الأصوات
ثاني هذه المقاطع كانت من مدينة إسنا، حيث كشف المحامي أدهم عبدالوهاب عن ممارسات غير قانونية مرتبطة بشراء الأصوات، ليروي واقعة حدثت مع أحد موكليه الذي حضر لمكتبه، فطلب منه بطاقته الشخصية لكتابة طلب رفع الدعوى التي يرغب في رفعها، إلا أنه فوجئ بموكله يخبره بأنه سلم بطاقته من أجل الانتخابات، مشيراً إلى أن هذا التصرف حرام ويضر بالمجتمع ويهدر الأمانة والضمير.
وأضاف أن جمع البطاقات بهذه الطريقة يسهّل استغلال الفقراء والتأثير على إرادتهم، ما يؤدي في النهاية إلى تدمير النسيج الاجتماعي وثقة المواطنين في العملية الانتخابية.
المقاطع المصورة لم تتوقف في محافظات الصعيد، ففي دائرة دكرنس وبني عبيد وشربين بمحافظة الدقهلية، أكد المرشح الفردي أحمد السنجيدي أن هناك شباباً كثيرين يخوضون الانتخابات، داعياً الناخبين لدعمهم، لكنه شدد على أن القرار النهائي يجب أن يكون وفقاً للضمير.
وأضاف “السنجيدي” أن بعض المواطنين يطالبون بإعطاء أصواتهم لمن يدفع لهم مبالغ مالية، إلا أنهم بعد الانتخابات يتمنون أن يتمتع النواب بالنزاهة، ما يعكس ازدواجية المعايير لدى الناخبين والمرشحين وصعوبة مواجهة المال السياسي.
وتطرق الدكتور رضا عبدالسلام – محافظ الشرقية الأسبق الذي يخوض الانتخابات على المقعد الفردي مستقل عن مركز المنصورة – خلال مقطع مصور لأحد مؤتمراته الانتخابية، إلى أنه يتعرض لضغط شديد.
وتابع: “بحاول أكون نظيف وكلامي كله عن اللي جم يعرضوا عليا مزاد الانتخابات وجايين يتاجروا في أهلي وأهلك، دي مش تجارة، عايزين نشتغل صح عشان بلدنا، وعندي على موبايل أشياء يمكن أن تقلب البلد، وحتى هناك بعض الناس – حتى لا أعمم – تعرضوا للناس اللي شغالين معايا. طب هو ينفع كده؟ أنا بقول ده للأجهزة طبعا”.
وفي دائرة أبوالمطامير والنوبارية ووادي النطرون، قال شاب للمرشح الفردي المستقل أحمد السنديوني إن بعض الناخبين يريدون الحصول على “كرتونة و200 جنيه” مقابل تصويتهم، فبدون ذلك لن ينجح المرشح، مؤكداً أن الانتخابات لا تُنجح بالمال فقط، وأن صوت الناخب قيمة لا تُشترى.
ووجّه المرشح محمد مصطفى الشمندي في سوهاج رسالة مباشرة للناخبين، ناشدهم بعدم بيع أصواتهم، ورصد المرشح المستقل في محافظة الغربية أحمد عبدربه محاولات شراء أصوات الفقراء عبر إغراءات مالية، وتكليفهم بالعمل كمندوبين في اللجان، وكتب الدكتور رضا البسيوني المرشح في دائرة المحلة الكبرى شعاره الانتخابي: “معاً جميعاً ضد المال السياسي الفاسد”.
وفي المقابل، نفى أحمد الوليد، أمين شباب حزب مستقبل وطن بمحافظة الجيزة، ما يُروّج حول استخدام المال السياسي في انتخابات مجلس النواب 2025، مؤكداً أن المشهد الانتخابي يعكس مستوى غير مسبوق من النزاهة والرقابة، وأن التنافس قائم على البرامج والخطط لا على الأموال.
القانون والشرع
ويؤكد خبراء الانتخابات أن شراء الأصوات جريمة قانونية يجب تجريمها، مشيرين إلى أن المرشحين الذين يستخدمون المال السياسي يستغلون الظروف الاقتصادية للناخبين ويؤثرون على إرادتهم.
وأوضح الدكتور عمرو هاشم ربيع، نائب مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، أن المال السياسي له وجهان: الأول مشروع للإنفاق على إدارة العملية الانتخابية، والثاني غير مشروع ويتمثل في الرشاوى التي تهدد نزاهة الانتخابات.
وشدد الدكتور فريد البياضي، نائب رئيس الحزب المصري الديمقراطي، على أن شراء الأصوات جريمة قانونية تؤثر بشكل مباشر على نزاهة العملية الانتخابية.
بينما أشار الكاتب الصحفي مجدي الجلاد، رئيس تحرير وكالة أونا، إلى أن 90% من مقاعد البرلمان معروفة مسبقاً، موضحاً أن الانتخابات تم هندستها على مستوى القوائم والمقاعد الفردية، ما يطرح تساؤلات حول الشفافية ويزيد أهمية مراقبة العملية الانتخابية لضمان نزاهتها.
وعلى الصعيد الشرعي، أصدرت دار الإفتاء المصرية فتوى سابقة تؤكد أن شراء الأصوات حرام شرعاً، وأن من يشارك في هذه الممارسات آثم، مشيرة إلى أن المرشح يجب أن يكون أميناً صادقاً، وأي مال يُؤخذ في هذا الإطار يُعد حراماً ويجب ردّه، مؤكدين أن الوسطاء في هذه العملية يُسهلون ارتكاب الحرام وهم أيضا آثِمون شرعا.
وأعلنت الهيئة الوطنية للانتخابات عن موعد نشر نتائج المرحلة الأولى في الجريدة الرسمية يوم الثلاثاء 18 نوفمبر، مع تقديم الطعون الانتخابية خلال 48 ساعة، وفصل المحكمة الإدارية العليا خلال 10 أيام، على أن تُجرى جولة الإعادة بالخارج 1 و2 ديسمبر، وبالداخل 3 و4 ديسمبر، وتُعلن النتيجة النهائية 11 ديسمبر، ما يجعل متابعة الانتخابات الدقيقة أمرًا حيويًا لضمان سير العملية الانتخابية بنزاهة وشفافية.
المرحلة الثانية
أما المرحلة الثانية فتشمل محافظات: القاهرة، والقليوبية، والدقهلية، والمنوفية، والغربية، وكفر الشيخ، والشرقية، ودمياط، وبورسعيد، والإسماعيلية، والسويس، وشمال سيناء، وجنوب سيناء.
وتبدأ فترة الدعاية الانتخابية لها في 6 نوفمبر، وتنتهي في 20 نوفمبر، على أن تجرى الانتخابات بالخارج يومي 21 و22 نوفمبر، وفي داخل البلاد يومي 24 و25 نوفمبر.
وتُعلَن نتيجة المرحلة الثانية في 2 ديسمبر، وتُستأنف في الوقت نفسه الدعاية الانتخابية لجولة الإعادة، والتي ستُجرى في الخارج يومي 15 و16 ديسمبر، وفي الداخل يومي 17 و18 ديسمبر، على أن ينتهي ماراثون الانتخابات بإعلان نتيجة الإعادة للمرحلة الثانية في 25 ديسمبر.
ولأول مرة منذ عام 2011، يشرف أعضاء من هيئتي قضايا الدولة والنيابة الإدارية، فضلاً عن تأهيل الموظفين المعاونين للقضاة، على عمليات الاقتراع والفرز في انتخابات مجلس النواب، بدلاً من الجهات القضائية ممثلة في القضاء العالي والنيابة العامة ومجلس الدولة، وذلك بعد تطبيق النص الدستوري الخاص بإلغاء الإشراف القضائي الكامل على الانتخابات.
ورغم تلك الإجراءات، يبقى شراء الأصوات تهديداً متكرراً لنزاهة العملية الانتخابية، ويعكس غياب الرقابة الفعلية على الأرض، في وقتٍ تتصاعد فيه الدعوات لتغليب الضمير على المال، والاختيار الحر على الإغراءات المؤقتة، فلا يمكن مواجهة هذه الظاهرة إلا بإرادة شعبية واعية ترفض الانصياع للمال السياسي، وتطالب بمحاسبة صارمة لكل من يعبث بإرادة الناخبين، مهما كانت مناصبهم.