يترقب الشاب الثلاثيني وليد جادو أن يسمع صوت تشقّق جديد في حائط منزله، بسبب تسرب مياه الصرف الصحي التي تحاصر الجدران من أسفل، في مشهد بات مألوفا لسكان قرية دنجواي بمحافظة الدقهلية.
يقول وليد بصوت يملؤه القلق: “نحن نعيش حرفيا فوق شبكة من المياه الملوثة، وكل يوم نسمع صوت تشقّق جديد في الحائط، ونخشى أن نستيقظ على كارثة حقيقية”.
ويتابع: “تقدمنا بشكاوى كثيرة، ونشرنا الاستغاثات لأن الخوف سيطر على الجميع، الأطفال ينامون بجانب رائحة خانقة، والمسنون لا يتحملون الوضع الصحي. نريد فقط تحركاً سريعاً قبل أن نفقد منازلنا”.
ويضيف أن الأمر لم يعد بسيطاً ولا يحتمل الانتظار، فمنذ شهور بدأت مياه المجاري تظهر أسفل الجدران، ثم راحت ترتفع تدريجياً حتى التهمت الرطوبة الطلاء والأثاث.
وتقع قرية دنجواي في نطاق مركز شربين بالدقهلية، ويُعد المركز أحد المناطق الحيوية في الجزء الغربي من المحافظة، ويضم 26 قرية و278 عزبة، من بينها قرية دنجواي.
وتشكل هذه القرى جزءاً من أكثر من 4,700 قرية تمتد عبر المحافظات، يعيش فيها 60 مليوناً و768 ألف مواطن، يمثلون نحو 58% من سكان البلاد، وفق بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء وتقديرات وزارة التنمية المحلية المرتبطة بمبادرة “حياة كريمة”، التي تستهدف تطوير نحو 4,784 قرية في مختلف أنحاء الجمهورية.
هواء ملوّث وأطفال مرضى
في القرية ذاتها، تؤكد أم خالد، ربة منزل، أن الوضع ازداد سوءاً: “لم نعد نفتح النوافذ لأن الرائحة لا تُحتمل، وأحياناً لا نقدر على الخروج بسبب تجمع المياه أمام المداخل”.
وأضافت:” الهواء ملوث، وأطفالي يعانون من كحة مستمرة، والطبيب قال إن السبب الرطوبة والغازات الصاعدة من الصرف، حتى إن ابني أصبح يعتمد على بخاخات الربو”.
استغاثات إلكترونية
على موقع “فيسبوك”، تداول الأهالي عشرات المنشورات الموثقة بالصور والفيديوهات تحذّر من تفاقم الأزمة.
نشرت صفحة “رصد الدقهلية” استغاثة عاجلة من سكان القرية لإنقاذهم من “كارثة صحية وبيئية”، فيما كتب أحد الأهالي على صفحة “إدارة أزمات دنديط” إحدى القرى التابعة لمركز ميت غمر: “بقالي أسبوع مش عارف أخرج من بيتي، الصرف الجديد ضارب في الشارع، جبنا مقطورة كسح لكن بعد دقائق رجعت المياه تاني. فين المسؤولين؟”.
أزمة تتكرر في كفر الشيخ
لم تتوقف المعاناة عند حدود الدقهلية؛ ففي مناطق مساكن الأربعين وسخا وميت علوان بمدينة كفر الشيخ تتجسّد الأزمة نفسها، وهي مياه الصرف التي تفيض في الشوارع ناشرة الروائح الكريهة ومهددة أساسات المباني بالتآكل.
يقول الأهالي إنهم طرقوا أبواب مجلس المدينة وشركات المرافق مراراً، لكن الرد المعتاد واحد: “الخطة قادمة” أو “الأعمال تحت الدراسة”، بينما الواقع يزداد سوءاً.
قرى غارقة في البحيرة
وفي محافظة البحيرة، تعاني قرية دست الأشراف – وهي القرية الأم لعدة قرى مجاورة – من الغرق في مياه المجاري.
يقول حسين البهنساوي، أحد الأهالي: “القرية الأم لم يصلها الصرف الصحي رغم أن القرى الصغيرة المجاورة بها. نعتمد على سيارات الكسح يومياً، لكن المياه تتسرب إلى البيوت والشوارع”.
ويضيف: “كثير من الحالات في القرية أصيبت بالفشل الكلوي بسبب اختلاط مياه الشرب بالصرف الصحي، حتى منزل الفنانة وفاء عامر محاصر بالمياه”.
أما الحاجة عائشة الريس، موظفة على المعاش، فتشير إلى بركة مياه خضراء أمام منزلها قائلة: “إحنا محرومين من الصرف وبنشرب مياه مختلطة بالصرف. عندي ثلاثة أحفاد مرضى دم، وإخوتي ماتوا بأمراض الكبد والفشل الكلوي. كل اللي بتمناه قبل ما أموت إن الحكومة تدخل لنا الصرف الصحي بدل العيشة غير الآدمية اللي إحنا فيها”.
مأساة كينج مريوط
ومن البحيرة إلى الإسكندرية، تتكرّر المأساة بشكل لا يختلف كثيراً، إذ يعيش أهالي منطقة كينج مريوط مأساة باتت جزءاً من حياتهم اليومية، وهي أن مياه الصرف الصحي لم تعد تقتصر على الشوارع أو الأراضي المنخفضة، بل تسربت إلى داخل المنازل لتغرق الأرضيات وتنشر الروائح الكريهة وتحول الحياة إلى جحيم.
تسببت هذه الأزمة في تراجع قيمة العقارات بشكل كبير، وأصبحت المنطقة تُعرف إعلاميا بـ”منطقة الصرف الغارق”، ما جعل المستثمرين يعزفون عنها تماماً.
ويقول الأهالي إنه رغم وعود الحكومة المتكررة بتطوير شبكات الصرف، فإن التنفيذ على أرض الواقع ما زال بطيئاً للغاية، وغالباً ما يقتصر على حلول مؤقتة مثل سحب المياه بالصهاريج دون معالجة السبب الحقيقي للمشكلة.
قرى بأسوان
وفي أقصى الجنوب، لا يختلف المشهد كثيراً في محافظة أسوان، إذ اختصرت رحمة رمضان، الطالبة في المرحلة الإعدادية، معاناة قرية أبو الريش بحري التي يعيش بها حوالي 60 ألف نسمة، الأزمة ببراءة تمتزج بالألم: “الرائحة الكريهة تمنعني من الدراسة عندما يتأخر والدي في تفريغ الطرنش، تصبح الحياة جحيما. أريد فقط أن أعيش في بيئة نظيفة”.
ورصدت المستشفيات الحكومية والوحدات الصحية إصابة 480 شخصًا من قرية أبو الريش ببكتيريا “الإي كولاي” خلال هذه المشكلة، مع توقع وجود حالات غير مُبلّغ عنها.
أرقام وتناقضات
في المقابل، ورغم ضخامة الإنفاق الحكومي على مشروعات كبرى مثل المتحف المصري الكبير الذي بلغت تكلفته نحو 2 مليار دولار (أي قرابة 100 مليار جنيه، بحسب تصريح لعالم المصريات زاهي حواس)، فإن ما أُنفق على مشروعات الصرف الصحي بين عامي 2014 و2025 لا يتجاوز 395 مليار جنيه فقط، بحسب المهندس شريف الشربيني، وزير الإسكان.
وأشار الوزير إلى تنفيذ نحو 3181 مشروعاً للصرف الصحي في المدن والقرى بطاقة إجمالية 11.6 مليون م³ يومياً، وبتكلفة 394.6 مليار جنيه، مما ساهم في رفع نسبة تغطية مياه الشرب من 95% عام 2014 إلى 99% عام 2025، وارتفعت نسبة تغطية الصرف الصحي في الحضر من 79% إلى 96%، وفي الريف من 12% إلى 60%.
وعود مؤجلة
تتعارض هذه الأزمة مع الأهداف المعلنة لمبادرة “حياة كريمة” الحكومية، التي أُطلقت لتحسين مستوى المعيشة في الريف المصري.
فبينما تستهدف المبادرة رفع نسبة القرى المخدومة بالصرف الصحي إلى 100% بحلول 2030، ما زالت الإحصاءات الرسمية تشير إلى أن التغطية لم تتجاوز 60% فقط حتى عام 2025.
البرلمان يتحرك
تقدّم عدد من أعضاء مجلس النواب بأسئلة برلمانية إلى الحكومة حول أزمات خدمية وبيئية تمس حياة المواطنين بشكل مباشر، وعلى رأسها تعثّر مشروعات الصرف الصحي في القرى والمراكز وما يترتب عليها من طفح للمياه، وتلوث للبيئة، وانتشار للأمراض.
وفي هذا السياق، وجه النائب خالد طنطاوي سؤالا إلى رئيس مجلس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي، ووزير الإسكان والمرافق المهندس شريف الشربيني، ووزيرة التنمية المحلية الدكتورة منال عوض بصفتها القائمة بأعمال وزير البيئة، متسائلا عن الأسباب الحقيقية وراء تعثر هذه المشروعات، وهل يعود ذلك إلى نقص التمويل أم ضعف الرقابة أم تأخّر المقاولين؟ ولماذا لا يتم إعلان جدول زمني محدد وملزم أمام الرأي العام للانتهاء من تلك المشروعات؟
كما تساءل طنطاوي عن مسؤولية الجهات المنفذة عن إهدار المال العام في المشروعات المتوقفة أو المنفذة بصورة رديئة، وطالب الحكومة بوضع خطة عاجلة لحماية القرى من التلوث الناتج عن تسرب الصرف إلى الترع والمياه الجوفية.
وفي المقابل، بحثت لجنة الإسكان والمرافق العامة والتعمير بمجلس النواب الأزمة ذاتها في عدد من المحافظات، إذ طالبت النائبة نشوى الشريف بإنشاء محطة صرف صحي في جزيرة هيسا بمحافظة أسوان، بينما تساءل النائب جابر أبو خليل عن أسباب توقف أعمال الصرف بقرى غرب النيل في مركز دراو.
كان مجلس النواب قد أقر موازنة لهيئة الصرف الصحي في العام المالي 2024 / 2025 بنحو 12.4 مليار جنيه، في محاولة لتعزيز الإنفاق على مشروعات البنية التحتية.
ورغم هذه التحركات، ما زالت مشاهد مياه الصرف تتصدر القرى؛ فبين أرقام حكومية مطمئنة وواقعٍ غارق في الإهمال، تبقى أزمة الصرف الصحي مرآةً لغياب العدالة في توزيع الخدمات، ومؤشرا على الفجوة بين التخطيط والتنفيذ.