“ادفعي الأول وبعدين اشتكي”، “عدم الدفع يعني عدم التعيين”، عبارتان تلخصان مشهداً جديداً يضرب الوسط القضائي في مصر عبر إجراءات تفرضها أكاديمية عسكرية، تشترط دفع ما يصل إلى 120 ألف جنيه مقابل دورات إجبارية تنظيمها لمدة 6 أشهر، مما يجعل من لا يملكون هذه الأموال، أي الفقراء، غير قادرين على الوصول لمنصة القضاء.
هذا ما كشفته وسائل إعلام مصرية، نقلاً عن مصادر في هيئات قضائية، عقب انتهاء هذه الدورات، وفرض تلك الأموال منذ بداية العام، وبات القضاة في انتظار حلم التخرج من دورة الأكاديمية العسكرية، التي تشمل تعلم فن الإتيكيت، لكن أمام كثير منهم عقبة دفع الأموال.
وكشفت تصريحات مسؤولين بالأكاديمية وبعض الدارسين أن تلك الدورات تهدف لإعداد جيل المستقبل على أسس الانضباط والأسس الوطنية لخدمة الوطن، لكنها واجهت انتقادات حقوقية للهيمنة العسكرية في مصر وتدخلها في شؤون القضاة وسلطاتها باعتبارها سلطة مستقلة.
رحلة الهيمنة والمعاناة
بدأت هذه الهيمنة منذ مايو 2018، عندما وقع نادى قضاة مصر، برئاسة المستشار محمد عبد المحسن، بروتوكول تعاون مع وزارة الدفاع لعقد دورات تدريبية للقضاة بأكاديمية ناصر العسكرية.
وتولى القاضي محمود زيدان، عضو مجلس إدارة نادى القضاة، التنسيق مع الأكاديمية لعقد دورة الدراسات الاستراتيجية للأمن القومي، والتي حضرها 90 قاضياً، وشهد مقر نادي القضاة النهري بالعجوزة حفل تخرجهم.
اختفت الأنباء عن تلك الدورات قبل أن ينتشر خطاب دوري؛ أصدره مجلس الوزراء في أبريل 2023، يتضمن توجيهاً رئاسياً بإلزام الراغبين في التعيين بالحكومة بالحصول على دورة تأهيل داخل الكلية الحربية لمدة ستة أشهر كشرط أساسي للتعيين.
وفي يوليو 2024، تناولت وسائل الإعلام المصرية تغطية احتفال الأكاديمية العسكرية بتخرج الدفعة الأولى (ب) من المعينين بالجهات القضائية بعد إتمام دورتهم التدريبية، بالتنسيق مع وزارة العدل.
وهنا انتقل التنسيق من نادي القضاة إلى وزارة العدل مع الأكاديمية العسكرية، وأظهرت الكلمات مدى الهيمنة العسكرية على تفاصيل المشهد القضائي، حيث ألقى المستشار محمد حسن الشربيني، نائب رئيس محكمة النقض وقتها، كلمة شكر فيها القوات المسلحة على دعمها المستمر وتأهيل المعينين الجدد وفق أعلى درجات الانضباط الذاتي والتأهيل العلمي الراقي.
ولم يمر عام على حفلات تخرج القضاة حتى كشف موقع “مدى مصر” في 22 أكتوبر عن أن الأكاديمية فرضت على المعينين حديثاً رسوماً إلزامية بلغت 112 ألف جنيه للذكور و120 ألفاً للإناث، وأن التعيين لم يتم إلا بعد سداد هذه الرسوم، لأول مرة هذا العام.
أوضحت إحدى المعينات في هيئة قضايا الدولة أن التدريب في الكلية الحربية يشمل “المظهر العام والنظافة الشخصية، والمحاضرات القانونية والتاريخية، إضافة إلى فن الإتيكيت”.
وأكد رئيس نادي قضاة مصر، أبو الحسين قايد، أن الرسوم تُقابل إقامة المتدربين داخل الكلية الحربية والمقار التابعة لها طوال فترة التدريب التي استمرت ستة أشهر، وجُمعت من المعينين الجدد لصالح الأكاديمية في يونيو الماضي.
وقالت موظفة بمجلس الدولة إنها سألت عن آليات التظلم، فأجابها الموظف المسؤول: “ادفعي الأول وبعدين اشتكي”، فيما أكد معاون نيابة عامة الأمر نفسه، مضيفًا أن الموظف المسؤول عن تحصيل الرسوم أبلغه بأن “عدم الدفع يعني عدم التعيين”.
بعد حفل الأكاديمية، أصدر الرئيس عبد الفتاح السيسي، في 26 أغسطس، أربعة قرارات جمهورية بتعيين القضاة.
توسع دور الكلية الحربية
وخلال السنوات الماضية، توسع دور الكلية الحربية في منح دورات تدريبية لأغلب المعينين الجدد في الوزارات والجهات الحكومية الأخرى، لا سيما الملتحقون بالسلك الدبلوماسي ووزارة التربية والتعليم ووزارة النقل، وغيرها.
وقال الرئيس السيسي خلال زيارته للأكاديمية في 26 سبتمبر: “قررنا أن تساهم الأكاديمية في إعداد كوادر مؤسسات الدولة، كما نعد كوادر للقوات المسلحة” بهدف “بناء وتأهيل شخصية مشعّة القادرة على التغيير”.
وأوضح أنه يستهدف تدريب نحو 100 ألف موظف خلال السنوات العشر المقبلة، مع وصول الأثر إلى نحو نصف مليون شخص.
انتقادات واسعة
وقال مصدر قضائي لـ”مدى مصر” في 22 أكتوبر الجاري، إن فرض الرسوم يمثل عملياً انتقال سلطة التعيين في القضاء من الجهات القضائية إلى الأكاديمية العسكرية، وأن المعايير لم تعد تعتمد على نتائج الاختبارات، وإنما على تقارير أداء المتدربين خلال الدورة.
وكشف المصدر أن الجهات القضائية اعترضت على الاختبارات البدنية والنفسية داخل الكلية الحربية واستضافة المرشحين في دورة ستة أشهر، لكنها رضخت تحت ضغط الأمر الواقع، بعد تأكيد الدولة أن التدريب أصبح جزءاً من شروط التعيين.
وتساءل المصدر عن جدوى تدريب القضاة الجدد في الأكاديمية العسكرية لمدة ستة أشهر، مؤكداً أن التدريبات العسكرية لا تخدم القاضي عملياً.
ويُعد تدريب معاوني النيابة العامة داخل منشأة عسكرية سابقة نوعية في العلاقة بين المؤسستين القضائية والعسكرية.
وأشار النائب الأول الأسبق لرئيس محكمة النقض، أحمد عبد الرحمن، إلى أن الرسوم تمثل “قيدًا كبيرًا على تعيين الفقراء في القضاء”.
ووصف رئيس المركز العربي لاستقلال القضاء والمحاماة، ناصر أمين، الرسوم بأنها “تسليع للوظيفة القضائية وانتهاك خطير لاستقلال القضاء”، مشدداً على أن التدريب يجب أن يتم داخل مراكز الدراسات القضائية التابعة للهيئات القضائية لتطوير المهارات اللازمة للعمل القضائي.
وأضاف أن إلزام المتدربين بسداد الرسوم يجعل التعيين مرهوناً بقرار تنظيمي من الأكاديمية العسكرية، وهو ما يخالف الدستور وقوانين السلطة القضائية.
وفي 9 يوليو 2024، انتقدت مؤسسة دعم العدالة بالمركز العربي لتدريب القضاة إعلان الكلية الحربية تخريج دفعة جديدة من المعينين، مؤكدة أن هذه الممارسات تمثل مساساً بالمكون القضائي لأعضاء السلطة القضائية وتؤثر على تكوينهم ومسلكهم الوظيفي.
وشددت المؤسسة على ضرورة إنشاء أكاديمية للقضاء تحت مظلة المجلس الأعلى للقضاء لتدريب القضاة قضائياً وعملياً.
واعتبر المستشار محمد ناجي دربالة، نائب رئيس محكمة النقض الأسبق، أن إرسال القضاة الجدد إلى دورات تأهيل عسكري ضمن شروط التعيين يشكل إهانة مهنية وتاريخية للقضاء المصري.
ووسط هذه الانتقادات، لا يُعرف ما إذا كانت هذه الرسوم ستستمر على هذا النحو، وهل سيستمر تدخل الأكاديمية العسكرية في شؤون القضاة، أم يمكن أن يحدث تراجع قريباً.