أثارت الجلسة الأولى لمجلس الشيوخ الاستشاري استياء المواطنين، هذا المجلس الذي لا يملك أية صلاحيات ولا يقوم بدور تشريعي أو رقابي يخدم المواطنين، يستنزف ملايين الجنيهات من ميزانية الدولة، ما أثار كثير من التساؤلات المؤجلة منذ انطلاق سباقه الانتخابي.
أبرز هذه التساؤلات كان عن أسباب الإنفاق الضخم على الدعاية رغم ضمان الفوز أو التعيين لأسماء محسوبة بالكامل على النظام.
وكما يقول المثل الشعبي المصري “الجواب باين من عنوانه”، فقد كشفت الجلسة الأولى عن أسماء عشرات من رجال الأعمال وأصحاب التوكيلات الكبرى المرتبطة بعلاقات وثيقة مع السلطة، بالإضافة إلى ستة نواب على الأقل فشلوا في قراءة القسم أو آيات من القرآن الكريم، بينهم رئيس المجلس القاضي عصام الدين فريد.
كما شهدت الجلسة مواقف عبثية، منها تباهي أحد الفنانين باستخدام الهاتف المحمول داخل القاعة تقليدًا لمشهد سينمائي، في وقت بدا فيه المجلس وكأنه “مجلس الصوت الواحد” بعد فوز رئيسه بنسبة 100%.
بوابة الحماية
ولمعرفة أسباب الإقبال الكبير على عضوية مجلس بلا صلاحيات، خصوصًا من رجال المال، تكفي نظرة إلى لوائح المجلس التي تمنح الأعضاء امتيازات ضخمة.
إذ يحصل العضو على بطاقة حصانة تتيح له المرور في أي مكان داخل مصر دون تفتيش، إلى جانب مكافأة مالية شهرية تبلغ 42 ألف جنيه، معفاة من الضرائب وغير قابلة للحجز أو التنازل.
كما يتمتع العضو بتأمين طبي شامل له ولأسرته، وبطاقات مجانية سنوية لرحلات الطيران، واشتراك سفر مجاني بالدرجة الممتازة في السكك الحديدية، فضلاً عن حق الاقتراض بضمان المكافأة الشهرية، مع الاحتفاظ بكل مخصصاته الوظيفية واحتساب مدة العضوية في المعاش.
وارتفع بدل حضور الجلسات إلى 1000 جنيه، واجتماعات اللجان إلى 600 جنيه، بدءًا من العام المالي 2025–2026، أي أربعة أضعاف ما كان عليه في الفصل التشريعي السابق.
يضم مجلس الشيوخ 300 عضو، يعيّن رئيس الجمهورية ثلثهم، بينما يُنتخب الثلثان، وبحساب الامتيازات والمخصصات، فإن النائب يحصل على ملايين الجنيهات المباشرة وغير المباشرة خلال مدة عضويته التي تمتد لخمس سنوات، بخلاف ما قد يترتب على المنصب من مصالح.
المصالح تصنع المقعد
لهذا لم يكن غريبًا أن تضم قائمة الفائزين بمقاعد مجلس الشيوخ عددًا كبيرًا من رجال الأعمال وأصحاب المصالح المنتمين لأحزاب الموالاة، مثل “مستقبل وطن” و”الجبهة الوطنية”.
من بين أبرز الأسماء عادل مأمون عتمان، العضو المنتدب لشركة “التمساح” للعسل والمواد الغذائية، وعمر الغنيمي، نائب رئيس نادي سموحة والعضو المنتدب لشركة الغنيمي لتجارة الحديد والأسمنت، وأحد من فشلوا في قراءة القسم بالجلسة الافتتاحية.
كما فاز مصطفى أبو زهرة، صاحب مجموعة “أبو زهرة” للتطوير العقاري، وأحمد صبور، رئيس مجلس إدارة شركة “الأهلي صبور للتنمية العقارية”، ومحمد المرشدي، مالك مجموعة “معمار المرشدي”.
وتضم بورصة رجال الأعمال بالمجلس كذلك محمد مظلوم (مجموعة شركات مظلوم للسيراميك)، محمد حلاوة، أحمد أبو هشيمة، أحمد دياب، وأحمد الباز مالك سلسلة مطاعم “قصر الكبابجي”.
كما فاز بعضوية المجلس محمد السعيد عريبي، عضو الحزب الوطني المنحل، الذي وُجهت له بلاغات في 2010 تتهمه بتزوير الانتخابات، ومن بين المعيّنين رجل الأعمال والسياسي ياسر قورة، وهادي العتال.
وكشف الإعلام المحلي عن وجود خمسة أعضاء من كبار وكلاء السيارات العالمية تحت قبة المجلس، بينهم محمد زكي (مرسيدس)، إيفا نصيف (جوباص)، إبراهيم غطاس (بورش)، نشأت أبو حتة، وهاني حليم (أتوبيسات حورس).
كما أثار الفنان ياسر جلال جدلًا واسعًا بعد ظهوره في الجلسة الأولى وهو يتحدث في الهاتف مكررًا مشهدًا للفنان عادل إمام، ثم تفاخر لاحقًا بنشر “كوميكس” حول الموقف. وأثار الجدل أيضًا تعيين أعضاء في مجلس النواب بمجلس الشيوخ، مما اضطرهم للاستقالة من مقاعدهم السابقة، ومنهم اللواء أحمد العوضي، نائب رئيس حزب “حماة الوطن”، الذي أصبح وكيلاً لمجلس الشيوخ منذ الجلسة الأولى.
فضيحة القراءة
شهدت الجلسة الافتتاحية للمجلس أخطاء فادحة أثناء أداء القسم، فقد ارتبك النائب أحمد شعبان في البداية، وتلاه آخرون أخطأوا في نص اليمين وأعادوه أكثر من مرة، منهم أحمد مصطفى عدلي، أحمد سلام مدخل سليمان، مشيل مرعي عطا الله، وعمر خميس عمر الذي أعاد القسم ثلاث مرات، وريم حسين فؤاد الصاوي وإيفا ماهر نصيف اللتان أعادتا القسم بسبب خطأ في عبارة “ووحدة وسلامة أراضيه”. كما أخطأ رئيس المجلس عصام الدين فريد في تلاوة آية قرآنية أثناء الجلسة الأولى، ما أثار موجة انتقادات واسعة.
عبء مالي أم إهدار؟
ذكر مركز رع للدراسات الاستراتيجية في دراسة حديثة أن الانتخابات البرلمانية في مصر تمثل استثمارًا سياسيًا واقتصاديًا ضخمًا، لكن حجم الإنفاق يثير تساؤلات حول كفاءة استخدام الموارد، خصوصًا مع تصاعد الضغوط الاقتصادية على المواطنين.
وأشارت الدراسة إلى أن إجمالي ما أُنفق على العمليات الانتخابية منذ ثورة يناير 2011 حتى انتخابات 2015 بلغ نحو 7.2 مليارات جنيه، فيما وصلت تكلفة انتخابات مجلس الشيوخ في 2020 إلى 1.5 مليار جنيه على الأقل.
وتُقدَّر تكلفة انتخابات 2025 بمبالغ أكبر، إذ تصل مخصصات الدعاية في المرحلة الأولى إلى نحو 189.2 مليون جنيه، ودعت الدراسة إلى توجيه جزء من هذه النفقات إلى مشروعات تنموية صغيرة في الدوائر الانتخابية، مثل ترميم المدارس وتجهيز الوحدات الصحية وتمهيد الطرق الريفية.
“الانتخابات المعلبة”
انتقد حسين منصور، نائب رئيس حزب الوفد، ما سماه “الانتخابات المعلبة” عقب إعلان فوز رئيس مجلس الشيوخ بنسبة 100% من الأصوات، مؤكدًا أن صُنّاع الانتخابات نجحوا في تحقيق اختياراتهم بالكامل، لكن النتيجة قاسية جدًا، وتساءل ما إذا كان ذلك يصنع وطنًا يتسع للتسامح والقبول والحرية.
من جانبه، وصف مدحت الزاهد، رئيس حزب التحالف الشعبي الاشتراكي، مجلس الشيوخ بأنه “زائدة تشريعية” بلا صلاحيات رقابية أو تشريعية واضحة، مضيفًا أن القوائم المغلقة التي تهيمن عليها الأغلبية هي قوائم موالاة لا مشاركة حقيقية، وأنه لا حاجة لعمل “ديكورات” لإظهار الديمقراطية.
مجلس شيوخ أم نادٍ لرجال الأعمال؟
يبقى السؤال مطروحًا: هل نحن أمام مجلس شيوخ حقيقي أم نادي لرجال الأعمال؟ المؤشرات ترجح الرأي الثاني، إذ يبدو المجلس ساحة لتبادل المصالح الاقتصادية والنفوذ السياسي، تمنح فيها الدولة لرجال الأعمال حصانة برلمانية تؤمن مصالحهم، مقابل دعمهم للنظام سياسيًا وإعلاميًا واقتصاديًا، دون امتلاكهم خبرة سياسية أو كفاءة تشريعية أو شعبية في الشارع.
وفي المحصلة، يظهر المشهد السياسي أشبه بسيرك نفعي بين رجال السلطة ورجال الثروة، تُمنح فيه المقاعد النيابية مقابل الولاء والدعم، في تكرار لمشهد عام 2010 حين قرر الحزب الوطني احتكار كل شيء.