كان حلم طفلة بقرية صليبة العدر في ريف أسيوط أن تحمل حقيبتها الصغيرة متجهة إلى مدرستها التي تبعد نحو أربعة كيلومترات في قرية مجاورة، لكنها لم تصل أبدًا.
سقطت في ترعة قرية منقباد أثناء استقلالها “تروسيكل” مع عدد من التلاميذ، لتتحول رحلتها الدراسية إلى المأساة الأخيرة في مسلسل حوادث الغرق التي تتكرر منذ سنوات بسبب غياب الأسوار عن ضفاف الترع.
أمام الترعة المليئة بالقمامة وقف الأهالي في ذهول، أحدهم يرفع حقيبة أحد التلاميذ بيد مرتعشة، وآخر يدعى محمد حسني يصرخ قائلًا: “بقِينا سنين نطالب بسور على الترعة، ولا مسؤول سمعنا، والنهارده أطفالنا غرقوا ولسه في مفقودين”.
تدخل آخر غاضبًا وأضاف: “عندنا نواب أديناهم أصواتنا والمجلس خلص ومش قادرين يجيبوا موافقة لسور بسيط يحمينا”.
“الأطفال كانوا بيغرقوا”
وفي خضم الصرخات والفزع، كان ميخائيل عياد، أحد أبناء القرية، أول من قفز إلى مياه الترعة، وتمكن بمساعدة الأهالي من استخراج عدد من التلاميذ الذين سقطوا داخل المياه.
وقال ميخائيل إنه كان في طريقه لشراء بعض الأسماك لبيعها عندما شاهد الحادث، وأضاف: “قلعت الجلابية وقفزت في المصرف.. المنظر كان صعب جدًا، الأطفال كانوا بيغرقوا، والأهالي بيصرخوا”.
وروى ميخائيل عياد تفاصيل اللحظات العصيبة قائلاً إنه لم يكن يدرك عدد الأطفال في البداية، لكنه ظل يسبح في المياه حتى تمكن من استخراج نحو 15 تلميذًا من المياه بمساعدة بعض الأهالي. وأضاف: “مش عارف عملت كده إزاي، دي كانت نعمة من ربنا، الأطفال كانوا طافيين فوق الميه وأنا بحاول أشدهم واحد واحد”.
وأكد عدد من شهود العيان أن ميخائيل عياد لم يفكر في حياته الخاصة أو في خطر الغرق، بل كان هدفه الوحيد إخراج التلاميذ الذين كانوا يصارعون الموت في مياه المصرف
وانتهت المأساة بوفاة خمسة تلاميذ وإصابة سبعة آخرين، بينهم الطالبات سمر وبسملة ومليكة، لتُضاف الكارثة إلى سجل طويل من الحوادث المأساوية في قرى الصعيد.
تأتي هذه الحوادث رغم إعلان الحكومة رصد 80 مليار جنيه لتبطين الترع ضمن المشروع القومي لتأهيل المجاري المائية، والذي كان هدفه الأساسي تقليل فاقد المياه، إلا أن المشروع تجاهل أبسط مقومات الأمان على ضفتي الترع.
فبينما تم رصف وتبطين آلاف الكيلومترات، لم تُنفذ أسوار خرسانية تحمي المواطنين، رغم أن تكلفتها لا تتعدى بضعة آلاف من الجنيهات لكل ترعة.
ووفق ما رصدته “أحوال مصرية”، فإن مشروع تبطين الترع الذي بدأ قبل خمس سنوات تزامن مع ارتفاع حوادث الغرق في معظم المحافظات، ما يكشف عن إخفاق حكومي متكرر في مواجهة أزمة “الترع المكشوفة” التي تحولت إلى مصائد موت.
ضحايا بالجملة
خلال السنوات الأخيرة، تحولت حوادث الغرق في الترع إلى مشهد مألوف يتكرر في محافظات مصر المختلفة.
ففي سبتمبر الماضي شهدت قرية الكتكاتة بسوهاج مأساة إنسانية بعدما سقطت سيارة في ترعة الفاروقية، ما أدى إلى مصرع ثلاثة أشخاص تتراوح أعمارهم بين 14 و19 عامًا وإصابة آخر.
وفي يوليو من العام ذاته، لقي شاب يبلغ من العمر 18 عامًا مصرعه غرقًا بعد انقلاب تروسيكل في الترعة الرئيسية بمركز جهينة شمال غرب سوهاج.
وفي أبريل، شهد مركز دمنهور حادثًا مشابهًا حين غرقت سيدة وابنتها داخل مصرف أثناء رجوع سيارتهما للخلف وفقدان السيطرة عليها، ليتبين أن المصرف بلا أسوار.
وفي الجيزة، غرقت سيارة ملاكي تقل ستة أشخاص في إحدى الترع بطريق الجلاتمة بمنطقة نكلا في يوليو الماضي، بينما شهد مركز الفتح بأسيوط في يونيو سقوط تروسيكل يقل أحد عشر شخصًا في الترعة، تم إنقاذ ثمانية منهم.
كما شهد ديسمبر 2024 غرق ميكروباص في ترعة الإبراهيمية أسفر عن مصرع وإصابة عدد من الركاب، وفي نوفمبر من العام ذاته، سقطت سيارة ملاكي في ترعة الضبعية بالأقصر ونجت أربع سيدات من الموت بأعجوبة.
وفي الشهر نفسه لقيت الطفلة سلمى ذات السبع سنوات مصرعها بعد سقوط سيارة تقلها ووالدتها في ترعة المريوطية، فيما غرق ثلاثة من عائلة واحدة بترعة مشروع ناصر في البحيرة أثناء استقلالهم تروسيكل.
الحوادث لم تتوقف عند هذا الحد، ففي أبريل 2022 لقي سبعة أشخاص مصرعهم إثر انقلاب تروسيكل في ترعة ساحل مرقص بالبحيرة، بينما شهدت محافظة الدقهلية في نوفمبر من العام ذاته غرق 22 شخصًا على الأقل بعد سقوط “ميني باص” في ترعة المنصورية، وقبلها بأيام سقط أتوبيس مدرسة يقل خمسين طالبًا وطالبة في ترعة كفر الأطرش بمدينة شربين.
وفي يوليو 2022 توفي أربعة أطفال من حفظة القرآن الكريم وأصيب 26 آخرون عقب سقوط “ميني باص” في ترعة السلام بطريق دمياط – الدقهلية، وفي أغسطس 2021 لقي سبعة أشخاص مصرعهم إثر سقوط “تروسيكل” في ترعة البحر اليوسفي بالمنيا.
أما في يناير 2020 فقد غرق طفل يبلغ من العمر أربع سنوات بقرية سملا في الغربية بعد سقوطه في غرفة تغطية على الترعة أثناء عودته من الحضانة.
من بني سويف إلى الغربية وسوهاج والمنيا والبحيرة والفيوم، لا تختلف المأساة. تتكرر القصص وتتغير الأسماء، لكن السبب واحد وهو ترع بلا أسوار تحولت إلى فخاخ موت مفتوحة، تبتلع السيارات والتروسيكلات وحتى الأطفال العائدين من مدارسهم.
مشروع تجاهل أرواح المواطنين
تشير إحصاءات الإدارة المركزية لصيانة المجاري المائية بوزارة الموارد المائية والري إلى أن إجمالي أطوال الترع في مصر يبلغ نحو 33 ألفًا و500 كيلومتر، والمصارف نحو 20 ألف كيلومتر.
ينفذ مشروع تأهيل الترع على مرحلتين في 20 محافظة بتكلفة تقارب 80 مليار جنيه، تشمل أعمال تأهيل الترع والمساقي والتوسع في نظم الري الحديث والذكي، لكن المشروع لا يتضمن بنودًا واضحة لإنشاء أسوار أو حواجز خرسانية على ضفتي الترع، رغم أن ذلك يمثل عنصر الأمان الأهم لحماية أرواح المواطنين.
في مطلع عام 2023، أعلنت وزارة الري تشكيل وحدة لإعادة تقييم المشروع، وأكد الوزير هاني سويلم في جلسة برلمانية وجود مشكلات فنية في التنفيذ، مشيرًا إلى أن تبطين جميع الترع بالخرسانة دون تمييز يعد “إهدارًا للمال العام”.
ورغم ذلك، لا تزال الحوادث تتكرر دون تحرك فعلي لتوفير الحماية على الأرض. في فبراير الماضي، أعلنت محافظة أسيوط تنفيذ حواجز خرسانية على ترعة بانوب بمركز ديروط داخل الكتلة السكنية، لكن هذه الجهود تبقى محدودة مقارنة بحجم الخطر الممتد على آلاف الكيلومترات من الترع المكشوفة في أنحاء البلاد.
رأي الخبير الفني
يقول المهندس أحمد عبد اللطيف، خبير هندسة الموارد المائية، إن مشكلة غياب الأسوار ليست تقنية معقدة كما تُصوّر، موضحًا أن تكلفة إنشاء حواجز خرسانية أو معدنية بطول الترع داخل الكتل السكنية لا تتجاوز 1% من ميزانية التبطين الإجمالية.
ويضيف أن “المشروع ركّز على كفاءة نقل المياه وتبطين الممرات، لكنه تجاهل عنصر الأمان البشري، وهو ما حوّل الترع إلى خطر يومي على الأهالي، خصوصًا الأطفال وطلاب المدارس”.
ويؤكد عبد اللطيف أن الحل لا يتطلب مشروعات جديدة بقدر ما يحتاج إلى تعديل في أولويات التنفيذ لتشمل تصميمات السلامة كعنصر إلزامي في كل مشروع ري داخل المناطق المأهولة، مشيرًا إلى أن “الأمان المجتمعي لا يقل أهمية عن الحفاظ على نقطة المياه”
كارثة بلا نهاية
رغم المليارات التي أُنفقت على التبطين والمشروعات القومية، ما زالت الترع المكشوفة تحصد أرواح الأطفال والكبار يوميًا في مختلف المحافظات.
ومع استمرار تجاهل بناء أسوار أو حواجز أمان على ضفتي الترع من قبل الحكومة والوحدات المحلية والنواب، تبقى الكارثة مفتوحة بلا حل، فيما تظل “ترع الموت” شاهدًا على تقصير مزمن تجاه أرواح المصريين، بلا طوق نجاة أو نهاية في الأفق.