“دفعنا الفلوس من شهور وزرعنا مات وهنتحبس بسبب الديون”، بهذه الكلمات أطلق مزارعو قرية أبو دياب بمحافظة قنا استغاثتهم عبر مقطع مصوّر على “فيسبوك”، بعد عجزهم عن الحصول على حصصهم المقررة من الأسمدة.
قال أحد المزارعين إن نصيبه من الموسم الصيفي بلغ 250 شيكارة، لكنه لم يتسلم سوى 20 فقط، مطالبًا بمد فترة الصرف ومنتقدًا الشركات التي تقلّص التوزيع المحلي وتفضّل التصدير من أجل تعظيم أرباحها.
المعاناة نفسها عبّر عنها أحمد عبدالواحد الزهيري من الدقهلية، مؤكدًا أن سعر شيكارة السماد قفز من 265 جنيهًا رسميًا إلى 1700 جنيه في السوق السوداء، بينما تباع النترات بـ1650 جنيهًا والسوبر فوسفات بـ1350، وهي أسعار وصفها بأنها “تخنق الفلاحين”.
أزمة تمتد إلى المحافظات
لم تقتصر الأزمة على قنا والدقهلية؛ ففي الإسكندرية يشتكي مزارعون مثل بركات عبدالحميد وأحمد محارب وقاسم جمعة من نفس العجز، وفي القليوبية أوضح الحاج جابر عليوة أن حصة الفدان يجب أن تكون 6 شكائر لكن الجمعيات الزراعية لا تسلّم إلا نصفها أو أقل.
وأكد عبدالله سلام أن النقص سببه زيادة المساحات المزروعة بمحاصيل كثيفة الاستهلاك مثل البطاطس، ما رفع سعر الشيكارة في السوق السوداء إلى 2000 جنيه.
أما في سوهاج، فقد رصدت صفحات محلية زحامًا شديدًا أمام الجمعيات التعاونية بقرية شندويل وسط غياب للإدارة الزراعية.
في القليوبية أيضًا، عبّر مزارعون عن خوفهم من الحبس بعد عجزهم عن سداد ديون البذور والأسمدة.
فقد دفعوا مقدمات منذ شهور ولم يتسلموا كامل حصصهم، فيما يستغل التجار الفجوة بين العرض والطلب برفع الأسعار بشكل مبالغ فيه، ما يزيد الأعباء على صغار المزارعين.
وتشير الإحصاءات إلى أن صغار المزارعين يمتلكون 7.6 مليون فدان من أصل 10 ملايين في مصر، ما يجعل أي أزمة في الأسمدة تهدد بشكل مباشر الأمن الغذائي.
التدخل الحكومي… دون حل جذري
مع تصاعد الغضب، عقد وزير الصناعة كامل الوزير اجتماعًا في 23 سبتمبر 2025 مع شركات الأسمدة لبحث آليات التوزيع.
وألزمها بتقسيم الإنتاج إلى ثلاث مسارات وهي حصة لوزارة الزراعة، وأخرى كمية للسوق المحلي عبر المزادات، وأخرى للتصدير.
لكن تقارير كشفت أن الحكومة خفّضت الحصة الموردة للوزارة من 3 ملايين طن إلى 2.4 مليون فقط، أي من 55% إلى 37% من الإنتاج، لتعويض الشركات عن زيادة أسعار الغاز من 4.5 إلى 5.5 دولار للمليون وحدة حرارية.
كما ألزمتها بتوفير مليون طن إضافي تباع بالسعر العالمي داخل السوق المحلي.
وفي 25 سبتمبر، أعلن وزير الزراعة علاء فاروق مد فترة صرف أسمدة الموسم الصيفي 10 أيام إضافية حتى 10 أكتوبر، استجابة للضغوط الشعبية، إلا أن هذه الإجراءات لم تنهِ الأزمة.
أثر مباشر على أسعار الغذاء
تعتمد مصر بشكل أساسي على الإنتاج المحلي من الخضروات والفاكهة، ونقص الأسمدة يؤدي إلى انخفاض الإنتاجية وارتفاع الأسعار، ما يزيد معاناة المواطنين، خاصة أن 34.3% من المصريين يعيشون تحت خط الفقر وفق تقرير “الإسكوا” ومعهد التخطيط القومي.
تشير بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء إلى أن الأسمدة تمثل 32% من تكاليف الإنتاج النباتي لعام 2021/2022، وتعتمد الزراعة المصرية على الأسمدة الكيماوية بنسبة 97%.
يقول د. علي إسماعيل، أستاذ الأراضي بمركز البحوث الزراعية، إن الأسمدة النيتروجينية هي العنصر الأساسي لزيادة إنتاجية المحاصيل، تليها الأسمدة الفوسفاتية. وأضاف أن الشركات تتجه لإنتاج الأسمدة المركبة والمخلوطة لتعظيم الأرباح، عبر تقليل نسبة الأزوت وزيادة عناصر أخرى مثل الفوسفور والماغنسيوم والزنك.
من جانبه، أوضح المهندس محمود الطوخي، رئيس الجمعية العامة للخضر، أن نقص الأسمدة يؤدي إلى ضعف النمو وانخفاض الإنتاجية، وهو ما قد ينتج عنه محاصيل أقل حجمًا وكميات أقل.
أما الدكتور نادر نور الدين، أستاذ الأراضي بجامعة القاهرة، فحذّر من خطورة غياب الأسمدة في المراحل الحرجة لتكوين المحاصيل مثل البطاطس والقمح والذرة، مشيرًا إلى أن نقص النيتروجين في هذه الفترات يؤدي إلى بطاطس صغيرة، وسنابل قمح ضعيفة، وكيزان ذرة خالية.
وانعكست الأزمة على أسعار الغذاء الأساسية. فبيانات المقارنة بين مارس 2014 ومارس 2024 تظهر تضاعف الأسعار عدة مرات، إذ ارتفع سعر كيلو الثوم إلى 65 جنيهًا مقابل 6 فقط قبل عشر سنوات، والبصل إلى 30 جنيهًا بدلًا من 5، والطماطم إلى 16 بدلًا من 4 جنيهات.
صادرات تتزايد وسوق محلي مختنق
المفارقة أن مصر تحتل المرتبة السابعة عالميًا في تصدير الأسمدة بإنتاج سنوي يصل إلى 17.9 مليون طن (8 ملايين نيتروجينية، 4 ملايين فوسفاتية، 7 ملايين من صخر الفوسفات).
وسجلت صادرات النصف الأول من 2025 نحو 1.359 مليار دولار، بزيادة 13% عن العام السابق، بحسب بيانات المجلس التصديري.
الاستحواذ السعودي والإماراتي
الأزمة تعمّقت مع بيع الحكومة المصرية حصصًا في شركات أسمدة كبرى لسد احتياجاتها من العملة الصعبة.
ففي 2022 استحوذ الصندوق السيادي السعودي على 19.8% من شركة أبو قير للأسمدة، فيما استحوذ صندوق أبوظبي على 271 مليون سهم من الشركة بقيمة 391.9 مليون دولار.
كما اشترى الصندوق السعودي 25% من “موبكو”، في حين استحوذ الصندوق الإماراتي على 45.8 مليون سهم منها بقيمة 266.5 مليون دولار.
وبذلك بات الصندوقان يمتلكان حصصًا مؤثرة في 7 من أصل 9 شركات للأسمدة النيتروجينية في مصر.
أرباح الشركات ترتفع رغم الأزمة
رغم معاناة الفلاحين، حققت الشركات أرباحًا متزايدة، فقد سجلت شركة أبو قير للأسمدة أرباحًا بلغت 4.44 مليار جنيه في النصف الأول من العام المالي الجاري بزيادة 11.9% عن العام السابق.
بينما ارتفعت أرباح “موبكو” بنسبة 17.5% لتتجاوز 3 مليارات جنيه في الربع الثاني من 2025.
كارت الفلاح… حل جزئي
من بين الحلول التي طرحتها الحكومة منذ 2018 إصدار “كارت الفلاح الذكي” لضبط عملية صرف الأسمدة. وأعلن وزير الزراعة أن عدد البطاقات الصادرة بلغ 4.8 مليون كارت حتى الآن.
وكشف المركز الإعلامي لمجلس الوزراء في أغسطس 2025 أن الوزارة نجحت عبر المنظومة الإلكترونية في صرف أكثر من 12 مليون شيكارة سماد مدعم خلال الموسم الصيفي.
ورغم ذلك، لا تزال الأزمة قائمة بسبب فجوة بين الإنتاج المحلي، وحجم الطلب، واستمرار التصدير.