تعد الواقعة الأولى منذ 190 عامًا: سرقة “السوار الفرعوني” تهز مصر وتفضح إهمال الحكومة في تأمين الآثار

هزّت قصة سرقة وصهر سوار فرعوني نادر أركان المتحف المصري، بعد نحو 190 عامًا من إنشائه عام 1835م، وفتحت باب الشكوك والجدل الواسع حول الرواية الرسمية عن صهر الأسورة الذهبية، وملف تأمين الآثار.

وتعالت أصوات على منصات التواصل الاجتماعي التي كشفت الواقعة تطالب بإقالة وزير السياحة والآثار شريف فتحي، من دون تجاوب حكومي مع هذا المطلب، خاصة مع اقتراب افتتاح المتحف المصري الكبير مطلع نوفمبر المقبل، ما يشكل فضيحة كبرى، تتعامل معها الحكومة باعتبارها حادثا اعتياديا بسيطا، تم القبض فيه على الجناة.

واكتُشفت واقعة سرقة السوار في 9 سبتمبر الجاري أثناء جرد مقتنيات أثرية مخصصة للعرض في معرض “كنوز الفراعنة”، المقرر إقامته في العاصمة الإيطالية روما خلال الفترة من 24 أكتوبر المقبل حتى 3 مايو من العام المقبل، بحسب وسائل إعلام مصرية آنذاك.

رواية الانصهار

كشفت وزارة الداخلية المصرية، في بيان يوم 18 سبتمبر، عن ملابسات بلاغ تقدم به المتحف المصري قبل 5 أيام، بشأن اختفاء أسورة ذهبية من داخل خزينة حديدية بمعمل الترميم.

ووفقًا لرواية الداخلية، أسفرت التحريات عن أن مرتكبة الواقعة أخصائية ترميم بالمتحف المصري، تمكنت من سرقة الأسورة بتاريخ 9 سبتمبر أثناء تواجدها في عملها بأسلوب المغافلة، ثم تواصلت مع أحد التجار من معارفها، صاحب محل فضيات بالسيدة زينب في القاهرة، والذي باعها لمالك ورشة ذهب بالصاغة مقابل 180 ألف جنيه.

وقام صاحب الورشة ببيع الأسورة لعامل بمسبك ذهب مقابل 194 ألف جنيه، حيث جرى صهرها ضمن مصوغات أخرى لإعادة تشكيلها، قبل أن يُلقى القبض على المتهمين، بحسب البيان الأمني. وقررت النيابة حبسهم، مؤكدة صحة الرواية الأمنية.

وللسوار قيمة تاريخية كبيرة. إذ كشف الدكتور مجدي شاكر، كبير الأثريين الأسبق، في مداخلة هاتفية ببرنامج «من أول وجديد»، أن الأسورة نادرة وتعود لأحد ملوك الأسرة الحادية والعشرين، أي منذ أكثر من 3300 عام.

ماذا وراء مبررات السرقة؟

كشفت المتهمة الأولى في قضية السوار الفرعوني، عن قيامها بالسرقة بدافع تأمين نفقات علاجها من السرطان، ودون الاعتداد بالذريعة الواهية، لكنها تكشف عن أزمة فقر تجتاح قطاعا واسعا من المصريين، ويحذر خبراء في علم الاجتماع من تنامي ظاهرة النجاة الفردية عبر ممارسات مثل السرقة واستحلال المال العام، في ظل أزمة اقتصادية عنيفة تضرب موظفين يعملون في مصالح حساسة في مختلف أجهزة ومرافق الدولة المصرية.

تأخير متعمد

ورغم أهمية السوار، جاء الإعلان الحكومي عن الحادث متأخرًا. فقد أوضحت وزارة السياحة والآثار في بيان يوم 16 سبتمبر أن تأجيل الإعلان عن سرقة إسورة ذهبية ذات خرز كروي من اللازورد، من مقتنيات الملك “أمنمؤوبي” من عصر الانتقال الثالث، جاء حرصًا على توفير المناخ الملائم لضمان سير التحقيقات.

وخوفًا من تهريبها خارج البلاد، أعلنت الوزارة تعميم صورة القطعة المفقودة على المطارات المصرية والمنافذ والموانئ البرية والبحرية والحدودية.

لكن هذه الخطوات المتأخرة حركت الشكوك على منصات التواصل بشأن اختفاء قطع أخرى، ما دفع الوزارة لإصدار بيان في 18 سبتمبر تنفي فيه صحة ما تردد عن اختفاء 5 قطع أثرية وتَحطم قطعة أخرى من المتحف اليوناني الروماني بالإسكندرية.

إهمال وتراخٍ

لم تتخذ الوزارة أي إجراء ضد الإهمال، بينما أكد الدكتور حجاجي إبراهيم، أستاذ الترميم وعضو اللجنة الدائمة للآثار الفرعونية السابق، في تصريحات لوسائل إعلام مصرية، أن تهريب الأسورة الذهبية جاء نتيجة الإهمال والتراخي في عملية التفتيش الذاتي للموظفين وكل من يدخل المتحف.

وأضاف إبراهيم أن المتاحف ومخازن الآثار في مصر لا تخضع لمعايير وضوابط التفتيش اللازمة، مشيرًا إلى أن تلك الواقعة ليست الأولى من نوعها وقد لا تكون الأخيرة، طالما أن هناك إهمالًا شديدًا في المتاحف.

واعترف الوزير شريف فتحي بذلك صراحة، وقال خلال مداخلة هاتفية ببرنامج «الحكاية» مع عمرو أديب عبر «MBC مصر»، إن التراخي في الإجراءات الأمنية هو ما سمح بسرقة الأسورة، كاشفًا أن كاميرات المراقبة غير موجودة في صالات الترميم.

ونفى فتحي حدوث أي سرقات سابقة من عهدة المتحف المصري بالتحرير، مشيرًا إلى وجود شرطة داخل صالات الترميم، قبل أن يؤكد عمرو أديب – نقلًا عن مصدر أمني – عدم صحة ذلك، ليتراجع الوزير عن تصريحاته.

شرارة غضب

أشعل التضارب والتساؤلات التي تدفقت منذ تسريب واقعة السرقة على مواقع التواصل الشكوك والجدل على مدار أسبوعين في منصتي “إكس” و”فيسبوك”.

علقت شاهيناز طاهر على حديث الوزير مع أديب مؤكدة أن ما حدث عبث وفشل وكارثة تستلزم استقالة الوزير ومحاسبته.

وقال بكر العادلي إنه لا يصدق أن السوار صُهر فعلًا، مشيرًا إلى أن السارقة والصائغ يعلمان قيمته الحقيقية.

ووصفت شيرين هلال الواقعة بأنها خبر حزين يثير تساؤلات حول أمن المتاحف المصرية، وحماية تراثها الثمين.

ورأى محمود عاطف أن ما جرى متسق مع “الحقبة الحالية التي تفضل الربح المادي السريع على حساب القيمة”.

وشككت عبير أم إسلام في الرواية الرسمية للسرقة والصهر قائلة: “قلنا لما نكذب نألف كذبة مقبولة. الناس اللي في الصورة لو فعلاً حرامية، آخرهم سرقة شقق. محدش يقنعني إن دول دخلوا المتحف اللي موجود فيه كاميرات مراقبة وأجهزة إنذار على كل قطعة، وسرقوا السوار الذهبي ده، لأن سعره كأثر يقال إنه 150 مليون، لأنه أثر فرعوني. السؤال هنا: لو ظهر في أي مكان يبقى إيه؟

توقيت حرج

جاءت هذه الشكوك في توقيت حرج، قبيل المعرض الدولي المرتقب في روما وقرب افتتاح المتحف المصري الكبير.

وبدلًا من اتخاذ قرارات إدارية، سارع وزير السياحة والآثار إلى لقاء مجموعة من المؤثرين وأصحاب المحتوى الرقمي للتعاون في حملة “إحنا مصر”.

لكن الوزير لم يتخذ أي إجراءات لتلافي أسباب الواقعة، في وقت تزداد فيه التساؤلات حول الخطوات العاجلة لتعزيز منظومة الأمن والتوثيق والجرد الشامل للمقتنيات وخطط التطوير التكنولوجي وإعادة هيكلة نظم الحماية في المتاحف.

وفي ظل التجاهل الرسمي، تقدمت النائبة مها عبدالناصر، عضو مجلس النواب عن الحزب المصري الديمقراطي، بسؤال موجه إلى رئيس الوزراء ووزير السياحة والآثار بشأن الواقعة، مؤكدة خطورتها في ظل استعداد مصر لافتتاح واحد من أكبر متاحف العالم.

وأوضحت أن فقدان قطعة أثرية من داخل معمل الترميم – المفترض أنه الأكثر تحصينًا – يثير تساؤلات جوهرية حول فعالية آليات التأمين والرقابة والمتابعة داخل المتاحف والمعامل والمخازن الأثرية بمختلف أنحاء الجمهورية.

تاريخ من السرقات

سرقة السوار الذهبي تعبر أول واقعة بهذا الحجم تتم في مخازن ترميم المتحف المصري، الذي يحتفظ بآلاف القطع الفرعونية، لكنها ليست الأولى في مصر المليئة بالكنوز الفرعونية. ففي عام 2021 ألقت السلطات القبض على رجل الأعمال حسن راتب والنائب علاء حسانين في قضية “الآثار الكبرى” بعد التنقيب عن الآثار، وأُفرج عن راتب قبل أيام بعد أن قضى ثلاث سنوات في الحبس.

كما قررت النيابة الإدارية إحالة مسؤولين اثنين بمتحف الفن الإسلامي للمحاكمة، بتهمة سرقة سبع قطع أثرية نادرة بعد انفجار أمام المتحف في يناير 2014.

وبين عامي 2018 و2021 استردت مصر عددًا كبيرًا من القطع الأثرية، شملت 222 قطعة و21 ألف عملة من 5 دول.

ورغم أن الحدث لا يزال تحت الأضواء، فإن تجاهل الحكومة الاعتراف بالإهمال، وعدم الاستجابة لمطالب إقالة وزير السياحة والآثار ومحاسبته، يفتح الباب أمام تكرار مثل هذه الوقائع، ويعزز الشكوك بأن ملف الآثار في مصر ما زال يحمل كثيرًا من الأسرار التي لم تُكشف بعد.

أضف تعليقك