اهتزت الأوساط العمالية في مصر على وقع وفاة رضيعة العاملة “دعاء محمد” التي استلمت ورديتها في مصنعها في المنطقة الحرة بالعامرية بالإسكندرية حاملة طفلتها الرضيعة وتبلغ من العمر ثلاثة أشهر.
تعرضت الطفلة لوعكة صحية خطيرة، فطلبت الأم من مشرفتها المباشرة بالمصنع ، إذنًا طارئًا بالخروج الفوري لأخذ طفلتها إلى المستشفى. لكن المشرفة رفضت طلبها بشكل قاطع، وهددتها بأن مغادرة العمل ستكلفها ثمنًا باهظًا: خصمًا ماليًا قد يصل إلى 1000 جنيه من راتبها المتدني أصلًا، إضافة إلى حرمانها من الزيادة السنوية.
تحت ضغط التهديد، اضطرت الأم للبقاء في مكان عملها، بينما كانت الطفلة تزداد سوءًا. وبعد ساعات مريرة من العجز والانتظار، فارقت الطفلة الحياة بين يدي أمها داخل المصنع. هذه القصة ليست مجرد حادثة فردية، بل هي شهادة حية على أن القانون الجديد، رغم نصوصه المتقدمة، لا يزال مجرد حبر على ورق في مواجهة سلطة الإدارة التي لا تُحاسب.
لك أن تتخيل أن يتم الضغط على أم مصرية عاملة بسيطة بخصم مبلغ ألف جنيه، أي ما يعادل 20 دولار، من راتبها فتضطر الأم إلى البقاء وتفقد رضيعتها حياتها.. في أي مكان في العالم يمكن أن يحصل هذا؟ ومن المسؤول عنه؟ إنها حياة المصري التي أصبحت بلا حقوق تقريبا.
المثير في الأمر، أن هذه الواقعة المؤسفة تأتي بعد أسبوع مما وصفته الحكومة المصرية بـالنقلة “التاريخية”، التي دخل فيها قانون العمل الجديد (رقم 14 لسنة 2025) حيز التنفيذ مطلع سبتمبر. القانون، الذي جاء بعد سنوات من النقاش والوعود، كان من المفترض أن يمثل نقلة نوعية في علاقة العمل، حيث تضمن نصوصًا صريحة لحماية العمال من التمييز والتحرش، وتوفير إجازات أطول وأكثر شمولاً، إضافة إلى إنشاء محاكم عمالية متخصصة. كانت الوعود كبيرة، وتناغمت مع خطاب رسمي يبشر دائما بالوعود والمستقبل لكل العاملين.
القانون الجديد: حقوق نظرية في مواجهة سلطة الإدارة
القانون الجديد يمنح إجازة وضع مدفوعة الأجر لأربعة أشهر خلال الحمل، وإجازة لرعاية الطفل لمدة عامين لكل طفل، فضلاً عن إجازات عارضة ومرضية ضرورية. بل إنه يُلزم المنشآت التي يزيد عدد العاملات بها عن 100 عاملة بتوفير حضانات آمنة. هذه النصوص لا يمكن وصفها إلا بأنها متقدمة، لكن لماذا فشلت في حماية طفلة رضيعة؟
الإجابة تكمن في أن القانون وحده لا يكفي. ففي غياب آليات رقابية صارمة، وتحت ضغط السلطة الإدارية التي لا تُحاسب، تُصبح النصوص مجرد حبر على ورق. لقد تم التهديد بـ”الجزاء” كوسيلة ضغط، وهو ما يعكس ثقافة عمل لا تزال ترى في العامل مجرد ترس في آلة الإنتاج، لا إنسانًا له حقوق وواجبات. هذا الواقع المأساوي يضع على المحك مصداقية كل التشريعات الجديدة التي تصدرها الحكومة.
حوافز اقتصادية وعقوبات غائبة
شركة “نايل لينين جروب” ليست مجرد منشأة عادية. إنها واحدة من أكبر الشركات المصرية المصدرة، وهي تستفيد بشكل مباشر من حوافز التصدير التي تقدمها الدولة لدعم الصناعة. وهنا يكمن التناقض الصارخ: فالدولة تدعم مالياً شركة تنتهك حقوق العاملين بشكل فاضح، مما يثير تساؤلاً حول معايير النجاح الاقتصادي في مصر. هل يُقاس النجاح فقط بحجم العوائد الدولارية، أم يجب أن يُربط بالالتزام بمعايير حقوق الإنسان والعمال؟
هذا الحادث المأساوي أيقظ موجة من الغضب العمالي. أكثر من 500 عامل وعاملة في مصنع “نايل لينين” للغزل والنسيج الذي شهد الواقعة، دخلوا في إضراب عن العمل، رغم وجود طوق أمني، مطالبين بأكثر من مجرد حقوق فردية. مطالبهم كانت شاملة: محاسبة المسؤولين عن وفاة الطفلة، تعديل الأجور لتواكب التضخم، تبسيط إجراءات الحصول على الإجازات، وصرف مقابل العمل الإضافي وبدل المخاطر. هذه المطالب تعكس أزمة أعمق: أزمة اجتماعية واقتصادية تضرب كافة القطاعات.
أزمة طالت الجميع
قضية عمال النسيج ليست معزولة عن باقي شرائح العمال والموظفين. إنها جزء من نسيج أوسع من المشاكل التي تواجه مختلف الشرائح المهنية في مصر. الأطباء، على سبيل المثال، يواجهون ظروف عمل صعبة ونقصًا في المستلزمات الطبية، مما يدفع الكثيرين منهم إلى الهجرة. الفلاحون وعمال الزراعة غالبًا ما يعملون في “الاقتصاد غير الرسمي”، مما يحرمهم من أي حماية تأمينية أو اجتماعية. هذه الأمثلة وغيرها تؤكد أن أزمة “الفجوة بين النص والواقع” في القوانين المصرية ليست قاصرة على قطاع بعينه، بل هي أزمة حقوق مجتمعية تشمل الجميع.
برلمان غائب.. وحكومة متغولّة
النظام الدستوري في مصر، وفي دول العالم كله، يمنح البرلمان أدوات رقابية قوية لمساءلة الحكومة، مثل الاستجواب ولجان التحقيق ومتابعة تنفيذ القوانين. لكن الممارسة اليومية تظهر عجزًا برلمانيًا مزمنًا. القوانين تمر بسرعة دون نقاش مجتمعي كافٍ، وتغيب متابعة تطبيقها. هذا الفراغ الرقابي سمح للسلطة التنفيذية بالتوغل في حقوق المواطنين، وحوّل البرلمان من هيئة رقابية إلى شاهد صامت، لا يقوم بدوره في حماية مصالح الشعب.
في النهاية، تظل مأساة الطفلة الرضيعة رمزًا مريرًا لفجوة واسعة بين وعود القانون وواقع الممارسة. إنها تضعنا أمام أسئلة وجودية حول شكل الدولة التي نريدها: هل نكتفي بقوانين متقدمة لا تُطبّق، أم نطالب بآليات قوية للمساءلة تضمن أن القوانين ليست مجرد حبر على ورق؟ إلى أن يتم الإجابة على هذه الأسئلة، سيبقى واقع الحال يدار بالخصومات والعقوبات، وربما بأرواح الأبرياء.