مصر تطرد أطباءها: نزيف الكفاءات وانهيار الثقة

“أنا رنين جبر.. النايبة رقم ٨ المستقيلة في دفعتي من قسم النسا والتوليد جامعة طنطا.. من أصل 15 نايب.. باقي 7 نواب بس!!” بهذه الكلمات المؤثرة، بدأ الطبيبة المصرية رنين جبر شهادتها التي هزت منصات التواصل الاجتماعي، كاشفةً عن واقع مرير يعيشه الأطباء في مصر. قصتها ليست مجرد حالة فردية، بل هي مرآة تعكس أزمة عميقة في مهنة يُفترض أنها من أكثر المهن قداسة، لكنها تحولت إلى عبء ثقيل يطرد الكفاءات، ويدفع الآلاف للهجرة أو الاستقالة.

تتحدث رنين عن ظروف عمل قاسية، حيث كانت النبطشيات تمتد إلى 48 أو حتى 72 ساعة متواصلة، لتصل أحيانًا إلى 82 ساعة مع المرور على المرضى، وينام الأطباء أقل من 6 ساعات خلال هذه الفترات الطويلة، غالبًا على الأرض أو كراسي مكسورة، في غرف بلا أمان أو خصوصية. تتعرض الدفعة بأكملها للعقاب الجماعي على خطأ فردي، وتُفرض عليهم “بيات” مستمر في المستشفى، محرمين من رؤية أهاليهم أو حتى الاستحمام. هذا الواقع القاسي، الذي يصفه الأطباء بـ”زمن العبودية”، يدفعهم للقيام بمهام تتجاوز اختصاصهم، من أعمال إدارية إلى مهام عمالية، تحت تهديد مستمر.

أرقام صادمة

ما عاشته رنين جبر ليس استثناءً، فالأرقام الرسمية تكشف عن نزيف حقيقي في القطاع الصحي. من بين 212 ألف طبيب مرخص لهم بمزاولة المهنة في مصر، يعمل 82 ألفًا فقط داخل المنظومة الصحية. هذا يعني أن أكثر من 60% من الكوادر الطبية غادرت المشهد، في وقت تتزايد فيه أعداد المرضى وينهار الجهاز الصحي تحت وطأة الضغط والعجز.

منذ عام 2019 وحتى منتصف 2023، استقال أكثر من 15 ألف طبيب من العمل بوزارة الصحة، بمعدل لا يقل عن 10 أطباء يوميًا. هؤلاء لم يكونوا فاشلين، بل كثير منهم من المتفوقين الذين حلموا بخدمة الناس، لكنهم وجدوا أنفسهم محاصرين داخل مستشفيات بلا إمكانيات، برواتب لا تكفي لتأمين المواصلات اليومية.

الطبيب الشاب، الذي يتخرج بعد سبع سنوات من الدراسة الشاقة وسنة امتياز بلا مقابل يُذكر، يبدأ رحلته العملية براتب لا يتجاوز 3700 جنيه (أقل من 80 دولارًا شهريًا). وحتى الطبيب المتخصص في جراحة المخ والأعصاب، ينهي خدمته بمعاش لا يتجاوز 2300 جنيه. لا تأمين حقيقي، لا حماية قانونية، لا امتيازات، ولا تقدير مهني.

قانون المسؤولية الطبية: تهديد للبقاء

لم تكن المعاناة المادية وحدها هي السبب وراء هجرة الأطباء. الطعنة الأعمق جاءت مع طرح قانون المسؤولية الطبية الجديد، الذي يضع الطبيب في مرمى السجن بمجرد ارتكابه خطأ طبي، حتى لو كان في ظروف مستحيلة، وبدون تمييز بين الخطأ الجسيم والتقديري، ودون وجود لجان علمية متخصصة للفصل في الأمر. هذا القانون جعل الطبيب المصري يشعر أنه في مواجهة يومية مع احتمال فقدان حياته المهنية أو حتى حريته، بسبب منظومة منهارة يُطلب منه أن يكون بطلاً خارقًا فيها. لم تعد المسألة مرتبطة بالكرامة، بل بالبقاء.

لم يعد للطبيب مكان في مصر

لم تكن دول العالم بحاجة لبذل جهد كبير لإغراء هؤلاء الأطباء. ألمانيا، بريطانيا، كندا، ودول الخليج، قدمت بيئات عمل منظمة، وأدوات طبية متوفرة، وحماية قانونية، واحترامًا مجتمعيًا. ففي ألمانيا، يحصل الطبيب المصري المهاجر على راتب يصل إلى 4000 يورو شهريًا كبداية. وفي بريطانيا، تضاعف عدد الأطباء المصريين خلال خمس سنوات فقط بنسبة 200%، من 435 طبيبًا في 2017 إلى أكثر من 1300 في 2021. كما تستقبل دول الخليج عشرات الآلاف من الأطباء المصريين، مستفيدة من تدريبهم وكفاءتهم، بينما مصر تشكو من نقص حاد في الكوادر.

حتى طلاب الطب لم يعودوا يخفون نيتهم، فدراسة ميدانية حديثة كشفت أن نحو 90% من طلاب كليات الطب في مصر يخططون للهجرة فور التخرج. الأمر لم يعد خيارًا، بل مخرجًا.

تداعيات كارثية

النتيجة كارثية: تتراجع نسبة الأطباء في مصر إلى ما بين 9 و13 طبيبًا لكل 10 آلاف مواطن، بينما المعدل العالمي يتجاوز 20. في بعض المحافظات، لا يوجد سوى طبيب واحد يغطّي قرى بأكملها، أقسام الطوارئ تئن، والمرضى ينتظرون بالساعات، والأخطاء الطبية تزداد، لا بسبب جهل أو إهمال، بل لأن الضغط يفوق القدرة.

اللافت أن هذه الكارثة لا يتم التعامل معها كأولوية سياسية أو وطنية. لا توجد خطة استراتيجية شاملة لوقف هجرة الأطباء، ولا سياسة وطنية واضحة لربط الأطباء بالخدمة العامة. لا توجد حوافز مجدية، ولا تحسين ملموس في الرواتب أو بيئة العمل. يُطلب من الطبيب أن يصبر ويصمد ويتحمل، لكن لا يُعطى شيئًا في المقابل، بل على العكس، يواجه إهمالاً، وضغطًا، وتشريعات طاردة.

ما يحدث ليس مجرد أزمة في قطاع الصحة، بل هو انهيار في ثقة الطبيب في بلده. الدولة التي لا تحمي أطبّاءها، لا يمكنها أن تحمي شعبها. والمجتمع الذي يتخلى عن علمائه، يفقد أهم أدوات بقائه. الأطباء هم العمود الفقري لأي دولة؛ لا أمن بدون صحة، ولا صحة بدون أطباء. ما يحدث الآن في مصر يُعتبر جريمة في حق المستقبل. إذا لم يتم التدخل بشكل عاجل، وإذا استمر هذا التجاهل، فسيأتي يوم لن تجد فيه طبيبًا يُنقذك حتى في الطوارئ. حينها، لن ينفع أي استثمار في الطرق أو الكباري أو المؤتمرات، لأن الدولة التي تفرّط في عقولها، ستدفع الثمن عاجلاً أو آجلاً، على هيئة موت، ومرض، وانهيار كامل في الثقة.

أضف تعليقك