في منتصف يوليو 2025، تصدّرت مقاطع مصوّرة منصات التواصل الاجتماعي في مصر، تتهم شخصيات معروفة ـ من بينها الممثلة وفاء عامر و”التيك توكر” الشهيرة أم مكة ـ بالضلوع في تجارة الأعضاء البشرية، ضمن رواية تزعم أن لاعب كرة القدم الراحل إبراهيم شيكا لم يمت بسبب السرطان، بل جرى “تفريغه من الداخل” وبيع أعضائه بعد وفاته. انتشرت المزاعم كالنار في الهشيم، عبر وسم يتصاعد، ووجوه تكرّر “الحكاية” دون تحقيق واضح حتى اللحظة من الأجهزة الأمنية والرقابية في الحكومة.
بعد أيام، أعلنت وزارة الداخلية القبض على صانعة المحتوى التي بثّت الرواية، والتي اعترفت بأنها “فبركت القصة بهدف تحقيق مشاهدات وأرباح مالية”، وأن كل ما قيل لا أساس له من الصحة. بدا وكأنّ القصة انتهت. “تهمة مفبركة” طُويت، ووفاء عامر خرجت سالمة، وأم مكة أنكرت، ووزارة الداخلية أنجزت مهمتها.
لكن المدهش ـ بل المقلق ـ أن المصريين لم يصدموا من التهمة، بل من أن تكون كاذبة. الرواية وجدت تصديقًا واسعًا، لا لأن الناس يثقون في مروّجيها، بل لأنهم يعرفون أن السوق موجود، وأن الأجساد ـ حين تفرغ الجيوب ـ تصبح قابلة للبيع فعلًا. والنتيجة: قصة مختلقة فضحت واقعًا غير مختلق، ومناخًا يتعايش يوميًا مع رعب اسمه “تجارة الأعضاء”.
لا يحتاج هذا السوق إلى نجمات أو مؤثرات ليُصدّق. يحتاج فقط إلى فقر مدقع، ومريض يائس، وشبكة صامتة. وفي بلد يعيش فيه أكثر من 30 مليون مواطن تحت خط الفقر، وفقًا للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، يصبح الجسد آخر ما يمكن رهنه أو بيعه: كلية مقابل مهر، فص كبد مقابل دين، أو حتى وهم بالخروج من الجحيم.
التقارير الدولية تؤكد هذا الواقع: مصر من بين أكثر خمس دول في العالم نشاطًا في سوق زراعة الأعضاء غير الشرعية، بحسب منظمة الصحة العالمية. وفي 2022، وثّق تحقيق أجرته منظمة “جلوبال إنفستيجيتيف جورنالزم” أكثر من 2500 عملية زرع غير قانونية جرت خلال ثلاث سنوات فقط، معظمها في مستشفيات خاصة، وبتواطؤ أطباء وسماسرة. أما أرباح السوق ـ عالميًا ـ فتُقدَّر بمليارات الدولارات سنويًا، بينما لا يحصل “البائع” غالبًا على أكثر من 3 أو 4 آلاف دولار، ثم يُرمى خارجًا بأمراض مزمنة، وعار لا يُشفى.
الأخطر من كل ذلك أن الدولة ـ بكل أجهزتها ـ تعرف، لكنها لا تتحرك. لم تُصدر الحكومة أي إحصاء رسمي عن الظاهرة منذ 2017، حين كُشفت شبكة كبيرة ضمت 41 شخصًا، بينهم أساتذة جامعيون وأطباء كبار، ثم جرى التعتيم على نتائج التحقيقات كأنها “قضية سيادية”. القانون موجود ـ قانون تنظيم زراعة الأعضاء الصادر عام 2010 ـ لكن الرقابة غائبة، والشفافية معدومة، والمستشفيات الكبرى محصّنة بالمال أو النفوذ.
في هذا الفراغ الرسمي، تتمدد الشائعات. يصبح التيك توك بديلًا عن التحقيق، والبلوجر مرجعًا شعبيًا للفساد. قضية أم مكة نموذج على ذلك: تحوّلت سيدة عادية تبيع “الفسيخ” وتُجري بثوثًا يومية إلى اسم في شبهة “الاتجار بالأعضاء”، فقط لأن الخيال الشعبي بات مهيّأ لتصديق الأسوأ، في ظل واقع حكومي ورقابي لا يقدّم إجابات واضحة له.
ما حدث ليس مجرد فقاعة رقمية. إنه مرآة حقيقية لمزاج عام مشحون بالفقر والخذلان. حين يختلط الكذب بالحقيقة، وتصبح أكثر القصص فبركةً أقرب إلى الواقع من نشرات الحكومة، نكون أمام لحظة انهيار في الثقة، لا تعالجها بيانات النفي، بل بإصلاح جذور الكارثة: اقتصاد يرحم، وعدالة توزَّع، وشفافية لا تختبئ.
قد تكون قصة أم مكة ووفاء عامر مفبركة، نعم. ولكن ما كشفته حقيقي. والبطولة ليست في نفي القصة، بل في الاعتراف أن هناك قصة أكبر وأخطر تُروى يوميًا، بصمت، على أجساد الفقراء. إنها تجارة حقيقية… لا تحتاج لمؤثرين كي تبدأ، بل لصمت رسمي كي تستمر.
أضف تعليقك