استفاق سكان حي الريسة، غرب مدينة العريش، في شهر يوليو الجاري، على وقع جرافات تقتحم أزقتهم تحت حماية الشرطة، لتبدأ مرحلة جديدة من إزالات المنازل ضمن توسعة مشروع تطوير ميناء العريش، بعد نحو ثلاث سنوات من التجميد.
أعادت الإزالات المفاجئة إحياء أزمة تعود جذورها إلى عام 2019، حين صدر القرار الجمهوري الأول بتخصيص أراضٍ محيطة بميناء العريش لصالح القوات المسلحة، تبعه في 2021 قرار توسعة إضافية رفع المساحة إلى 541.82 فدان، لتصبح امتدادات مشروع التطوير بمثابة اجتياح عمراني شامل لساحل شرق العريش، من الميناء القديم وحتى قرية السكاسكة، آخر قرى المدينة من جهة الشرق.
هذا التوسع للميناء هدد بإعادة تشكيل طابع المدينة وهويتها الاجتماعية، لاسيما أن المشروع يبتلع في طريقه منطقة «الريسة» ذات الطبيعة السياحية المميزة، والتي لطالما كانت المتنفس الصيفي الرئيسي للأهالي، وتضم تجمعًا عمرانيًا من الفيلات والعمارات الفاخرة المطلة على البحر، وتسكن فيها نحو أربعة آلاف أسرة. ويخشى السكان أن تتحول هذه المناطق إلى استثمارات مغلقة، تُقصيهم من مدينتهم، لصالح مشروعات غير معروفة الملامح.
وبينما تتحدث الدولة عن تطوير الميناء وتحويله إلى بوابة لوجستية كبرى، لم تُعلن أي خطة شفافة توضح كيف سيُستخدم الساحل الذي تُزال البيوت من فوقه. كما لم يُحدد مصير الحي السكني المفترض إنشاؤه بديلًا، الذي لا يزال على الورق.
وعود مخلفة من كامل الوزير
في صيف 2022، زار وزير النقل، الفريق كامل الوزير، العريش واعتذر للأهالي عن “أخطاء وقعت في المراحل الأولى”، متعهدًا بعدم خروج أيٍّ منهم من منزله إلا إلى سكن بديل مكافئ. آنذاك، هدأت الاحتجاجات، وأُقيم جدار يفصل بين المناطق التي أُزيلت بالفعل وبين مناطق المراحل الرابعة والخامسة المعدة للإزالة، وبدأت الهيئة الهندسية للقوات المسلحة في معاينة أراضٍ لإنشاء حي سكني بديل، عرضت مخططه للأهالي، دون أن تحدد أرضًا واضحة للتنفيذ.
لكن ما بدا حينها كمخرج تفاوضي، انهار فجأة خلال الأيام الماضية، حين اقتحمت المعدات والشرطة حي الريسة، وطوّقت مربعًا سكنيًا ملاصقًا لشارع الميناء القديم، وأمرت السكان بإخلاء منازلهم، دون تقديم بدائل واضحة. أحد السكان وصف المشهد قائلًا: “نازلين بقوات ولا كأنهم بيحرروا القدس”
بحسب مصادر من لجنة الحكماء، المعنية بالتفاوض مع الجهات الرسمية، فإن المحافظة تجاهلت وعود كامل الوزير، وأبلغت اللجنة بورود “إشارة مستعجلة جدًا” لاستئناف الإخلاء. وبينما لم يصدر أي تأكيد رسمي على توفير مساكن بديلة، اعتمدت المحافظة حصرًا قديمًا يعود إلى عام 2019، في صرف التعويضات، رغم التغيرات الكبيرة في الأسعار منذ ذلك الحين، فضلا عن أن بعض سكان المراحل الأولى لم يتسلموا تعويضاتهم حتى الآن، فيما تصر المحافظة على التكتم حول تفاصيل التعويضات، إذ “يُمنع كشف القيمة إلا بعد تسليم ملفات البيوت وبدء الإزالة”.
وكان محافظ شمال سيناء السابق، محمد عبد الفضيل شوشة، قد أعلن في عام 2022 أن سعر متر الشقة كاملة التشطيب حُدد بـ3500 جنيه، وأن الأهالي يمكنهم الحصول على شقق بديلة بمساحة 100 متر بسعر 350 ألف جنيه. لكن عشرات العمارات التي بُنيت جنوب العريش لهذا الغرض لا تزال خاوية، بينما تعود الإزالات دون انتقال السكان إليها.
صمت رسمي.. وغضب يتجدد
رغم حساسية الوضع، امتنعت الأجهزة التنفيذية في المحافظة عن إصدار بيان يوضح ما يجري، بينما يزداد التوتر بين الأهالي، الذين يؤكدون أنهم لن يغادروا إلا على أطلال منازلهم. فقد سبق أن نظم الأهالي حملة فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي بعنوان «مش هنسيب بيوتنا يا ريس»، أعربوا فيها عن رفضهم لإخلاء منازلهم وتفضيلهم للموت فيها، ودعوتهم للحكومة بتعديل القرار ونقل الميناء الي منطقة غير مأهولة بالسكان على شاطئ سيناء الممتد على البحر المتوسط لأكثر من 200 كم تجنبا لتشريد السكان وضياع ممتلكاتهم في ظل امتلاكهم تراخيص بناء من الدولة.
وحتى الآن، يبدو أن مشروع التطوير يمضي وفق جدول زمني لا يراعي مطالب السكان. إذ لم تُنشر أي خريطة رسمية للمراحل الجديدة، ولا جرى فتح باب التظلم أو الطعن في قرارات الإزالة، كما لم تُعرض العقود النهائية للتعويض أو آلية التسليم والاستلام. وبين وعود أُطلقت ثم أُهملت، وقرارات تُنفذ فجأة، يبقى سكان حي الريسة في مواجهة مع جرافات لا تنتظر كثيرًا، وسرديات رسمية لا تترك لهم خيارًا سوى الخضوع أو المقاومة.
أضف تعليقك