اشتركوا عشان نأكل: بيع الخصوصية على تيك توك ويوتيوب

 في مواجهة الغلاء الفاحش، وانخفاض القيمة الشرائية للجنيه المصري، وانسداد الأفق أمام فرص العمل الحكومية، لجأ آلاف المصريين، خاصة من الفئات الأفقر، إلى ما يمكن تسميته بـ”اقتصاد فضح الخصوصية”. ففي هذا النوع مع الاقتصاد لا حاجة إلى شهادة، أو مهارة، أو رأس مال كبير؛ فقط هاتف بكاميرا، واتصال بالإنترنت، وقليل من الجرأة على تحويل تفاصيل الحياة اليومية إلى محتوى للمشاركة مع الآخرين، غالبًا من داخل أكثر الزوايا خصوصية: غرفة نوم، سفرة الطعام، أو مشادة بين الأب والأم.

من البطالة إلى البث المباشر: القناة هي الحل

في قرى ومدن مصرية كثيرة، بات الحديث عن “قناة اليوتيوب” أو “حساب التيك توك” جزءًا من حلول الأسرة لمواجهة تكاليف الحياة. الفكرة بسيطة: إذا لم تنجح في إيجاد وظيفة حقيقية، فربما تُرزق من مشاهدات الغرباء. وإذا كنت لا تملك قصة نجاح، فربما تصلح مأساتك أن تكون ترند. وهكذا تظهر فيديوهات لأسر تأكل على الأرض، أو أطفال يذاكرون على ضوء الشارع، أو زوجة تشتكي من زوجها أمام الكاميرا، أو أمّ توبّخ أولادها وتبكي. لا شيء خاص؛ كل شيء قابل للتسجيل.

لم تعد الحياة الخاصة مصانة أو محرّمة، بل أضحت سلعة يمكن بيعها مقابل الإعجابات والمشاهدات. تسجّل الأسرة لنفسها وهي تتناول الفول على العشاء، تضحك على فقرها، تردّ على التعليقات، تشتم المنافسين على التيك توك، وتعيد نشر الجدالات العائلية على أنها “محتوى واقعي”. إن هذه الظاهرة تعبّر عن طبقات سقطت منها الكرامة الفردية بفعل الإفقار الممنهج، فلم تعد ترى غضاضة في أن تُعرض آلامها على المشاع طالما أن الكاميرا تشتغل والمشاهدات ترتفع.

 

هل نحن أمام اقتصاد أم استغلال؟

في المبدأ، ليس ثمة خطأ في محاولة الناس كسر حصار الفقر بأي وسيلة مشروعة. لكن الخطير هنا أن “اقتصاد فضح الخصوصية” هذا لا يخضع لأي تنظيم أو حماية. لا توجد جهة تضمن عدالة التوزيع، أو تحمي الأسر من الاستغلال الرقمي، أو تراقب المحتوى الذي يشاهده ملايين الأطفال.
وفي أحيان كثيرة، تروّج المنصات الكبرى لمن يصنع محتوى أكثر إثارة، ما يدفع البسطاء إلى تصعيد الجرعة الدرامية أو تجاوز المحرمات الأخلاقية، فتتحوّل الحياة نفسها إلى مسرح رخيص للابتذال اليومي.

لم تتأخر الحكومة في ملاحظة هذا النشاط الرقمي، فسارعت إلى إدخاله في منظومة الضرائب، باعتباره موردًا يجب إخضاعه للرقابة المالية. وبموجب قرارات مصلحة الضرائب، بات على كل من يحقق دخلًا من الإنترنت – سواء عبر الإعلانات أو التسويق أو المحتوى المدفوع – أن يُسجل نفسه ويُقدّم إقرارات ضريبية دورية، تحت طائلة الملاحقة القانونية.

لكن المفارقة أن هذه الخطوة لم تأتِ في إطار تنظيم شامل يضمن حماية صناع المحتوى أو تقنين أوضاعهم الاجتماعية، بل كإجراء جباية يضاف إلى أعبائهم، دون أن يقابله أي دعم تقني أو ضمان صحي أو تقاعدي. وهكذا، يجد الشاب الذي يصور يومياته أو السيدة التي تطهو على البث المباشر نفسها فجأة مطالبة بدفع ضرائب، في بلد لم يضمن لها وظيفة رسمية أو دخلًا ثابتًا، ما يكرس الشعور بالظلم الاجتماعي.

حين تُصبح الكاميرا بديلاً عن الكرامة

ما يجري على تيك توك ويوتيوب من عرض لخصوصيات حياة الفقراء في مصر ليس ناتجًا عن حب الشهرة بشكل رئيسي، بل هو صرخة بائسة في وجه نظام اقتصادي أغلق الأبواب وأبقى نافذة واحدة: نافذة الهاتف المحمول.

وفي بلد تعجز فيه الأسرة عن دفع الإيجار أو شراء الدواء أو توفير مصاريف التعليم، تبدو “الترندات” ملاذًا أخيرًا، حتى وإن كلّف ذلك كشف عورات البيوت أمام الملايين. إنها لحظة فارقة تكشف حدود ما يمكن للناس أن يتخلّوا عنه مقابل لقمة العيش، لقد أصبحنا بفعل سياسات الإفقار أمام مجتمع يعيش على الحافة… حافة الجوع، وحافة الكرامة.

أضف تعليقك