في يوم 7 يوليو 2025، اشتعلت النيران في مبنى “سنترال رمسيس” وسط القاهرة، أحد المفاصل الحيوية لشبكات الاتصالات في مصر، وأسفرت الكارثة حتى اللحظة عن وفاة أربعة من موظفي الشركة المصرية للاتصالات، وإصابة 33 آخرين بحالات اختناق. ورغم السيطرة على الحريق بعد عدة ساعات من اشتعاله، فإن تأثيراته امتدت كأمواج الصدمة عبر قطاعات حيوية في الدولة، لتكشف عن مدى هشاشة البنية التحتية الرقمية، وتهاوي مؤسسات يُفترض أنها تقود “التحول الرقمي” في البلاد.
انقطاع للإنترنت وبورصة متوقفة وطيران متأخر
لم يكن الحريق حادثًا عارضًا في مبنى إداري، بل أفضى إلى شللٍ واسع النطاق؛ حيث أسفر عن انقطاع واسع في خدمات الإنترنت والاتصالات، انعكس فورًا على الحياة اليومية للمواطنين وعلى عمل مؤسسات حيوية.
لقد شهدت خدمات الإنترنت الثابت والمحمول اضطرابات متفاوتة، حيث اشتكى كثيرون من انقطاع الشبكة كليًا أو ضعفها. وأكّد الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات أن الحريق عطّل عددًا من دوائر الربط الرئيسة، مما أثّر على أداء شركات المحمول الثلاث، وأدى إلى توقف خدمات “الكاش” لفترة طويلة.
وكذلك أعلنت البورصة المصرية تعليق جلسات التداول، مبرّرة القرار بوجود “اضطرابات فنية” أثّرت على كفاءة التواصل مع نظام التداول المركزي. وامتدت التأثيرات إلى قطاع الطيران، حيث شهد مطار القاهرة تأخيرات في إقلاع عشرات الرحلات نتيجة تعطل مفاجئ في أنظمة التشغيل.
فشل مركزي في إدارة المخاطر والبنية التحتية
سنترال رمسيس ليس مجرد مبنى خدمي، بل يشكّل عقدة رئيسية لدوائر الربط بين شركات المحمول وخدمات الإنترنت الثابت، وقد أظهر الحريق كيف أن نظام الاتصالات المصري بأسره يرتكز على نقطة واحدة دون بدائل حقيقية. هذه الحقيقة الصادمة تُفنّد سنوات من التصريحات الرسمية التي تباهت بما سُمِّي “التحول الرقمي”، “المدن الذكية”، و”بنية الجيل الخامس”.
فلو كانت هذه البنية فعلًا مرنة ومؤمنة، لما أدى حريق موضعي إلى انهيار قطاعات بأكملها، من البورصة إلى الطيران، ومن خدمات الكاش إلى شبكات المحمول، فضلًا عن اضطراب واسع في خدمات المواطنين اليومية.
أين كانت أنظمة الإطفاء الذكي؟
المثير للقلق أن “سنترال رمسيس” يُفترض أن يكون مزودًا بمنظومة آلية لإطفاء الحرائق، وصيانتها تتم بصفة دورية وفقًا لما تنص عليه اللوائح الفنية. لكن الحريق استمر لساعات، وامتد بشكل واسع في المبنى، مما يشير إلى غياب أو فشل هذه المنظومات مما أبرز الفجوة بين ما يروج له الإعلام الرسمي، وبين ما يراه المواطن حين يضرب الواقع بلا رحمة.
تجريف الدولة… ما بعد البنية التحتية
ما حدث في رمسيس لا يمكن فصله عن سلسلة من الحوادث الغريبة والمؤلمة التي شهدتها البلاد خلال عشرة أيام فقط: غرق حفار تابع لهيئة قناة السويس، وانهيارات متكررة في المباني القديمة دون رقابة، وتعثر مشروعات طرق يُفترض أنها حديثة مثل الطريق الإقليمي الدائري، ما يضع علامات استفهام ضخمة حول فعالية الإدارة، وسلامة البنية التحتية، ومدى صحة ما يُعرض على المواطنين من منجزات.
فالواقع، كما يُعيد الحريق تأكيده، أن الدولة المصرية قد تعرضت خلال العقد الأخير لعملية تجريف عميقة، مست مؤسساتها الفنية، وخبراتها البشرية، وأنظمتها الاحتياطية، بل وحتى ثقافة العمل العام. ولم يبق من الهيكل الإداري إلا قشرة تُستخدم لالتقاط الصور والبيانات الصحفية.
سؤال السيادة الرقمية الغائب
تكمن المعضلة الأعمق في أن مصر، في ظل كل هذا الضعف، تستورد البرمجيات، وتدير بياناتها عبر أنظمة أجنبية، وتفتقد إلى سيادة حقيقية على بنيتها الرقمية. لذا، لا يمكن الحديث عن “أمن تقني” بينما الدولة لا تملك أدواتها الرقمية المستقلة، ولا تملك استراتيجية استباقية لإدارة الكوارث.
النتيجة أن ملايين المواطنين كانوا “رهائن رقمية” في يد حريق واحد، وأن الغد قد يحمل الأسوأ ما لم تُتخذ خطوات جذرية.
إن حريق سنترال رمسيس يفترض ن يخرج أإلى العلن أسئلة سياسية جوهرية: هل تملك الدولة قرارها في تصميم بنيتها؟ هل تمتلك شبكاتها الرقمية؟ هل تسيطر فعليًا على بياناتها السيادية؟ وهنا تتبدى المأساة الكبرى، أن كثيرًا مما نعيشه اليوم هو صوريّ الشكل، خاوٍ من المضمون، محكوم بمنظومة لا تهدف إلى خدمة الناس، بل إلى خدمة السلطة. وحين يقع حادث، لا ينهار فقط مبنى، بل تنهار منظومة وهمية بُنيت على التزلف والادعاء لا على الكفاءة والرقابة.
الطريق إلى النهوض يبدأ من الحقيقة
إن نهضة البلاد تتطلب التحرر من منظومة إدارية مشوّهة لا تملك روح المسؤولية، ولا تخضع للمحاسبة.
لا يمكن الحديث عن حرب، أو عن دولة قوية، بينما منظومة الاتصالات تنهار بفعل شرارة. ولا معنى للحديث عن “العاصمة الإدارية الذكية” بينما لا تملك الدولة بنيةً بديلة تحمي مواطنيها من حريق في وسط القاهرة. ما لم يتم الاعتراف بالحقيقة، ومحاسبة المسؤولين، ووضع اليد على الجرح الحقيقي… فإن السؤال القادم لن يكون هل يحدث حريق شبيه مجددًا؟ بل متى؟