في مشهد يعكس عمق الأزمة الاجتماعية والاقتصادية التي يعيشها قطاع الصناعة في مصر، شهدت النصف الأول من العام الجاري تصاعدًا ملحوظًا في وت الاحتجاجات العمالية داخل مصانع السيراميك، وسط انسحاب شبه تام للدولة من دورها كضامن لحقوق العمال، وغياب حلول جذرية لأزمات مزمنة تراوح مكانها.
مصر كمركز لصناعة السيراميك
تنتشر مصانع السيراميك في مصر بسبب توافر المواد الخام الأساسية مثل الكاولين والسيليكا والفلسبار، ووقوع البلاد في موقع جغرافي متميز يسهّل التصدير إلى أسواق أفريقيا والشرق الأوسط، إلى جانب ارتفاع الطلب المحلي نتيجة الطفرة العقارية ومشروعات الإسكان، فضلًا عن وجود مناطق صناعية مؤهلة مثل العاشر من رمضان وبرج العرب توفر بنية تحتية مناسبة. ولذا تشغل مصر المرتبة العاشرة عالميّاً في إنتاج السيراميك بطاقة تصنيع تقدر بنحو 300 مليون متر مربع سنويًّا، ومن حيث التصدير تأتي مصر في المرتبة الخامسة والعشرين عالميًّا بقيمة صادرات بلغت حوالي 324 مليون دولار في 2023.
ومع ذلك، تُعد صناعة السيراميك من الصناعات التي تنطوي على أضرار صحية خطيرة، بسبب تعرّض العمال لغبار السيليكا المسبب لأمراض الرئة، والمواد الكيميائية الضارة في عمليات التزجيج، والحرارة المرتفعة داخل الأفران، فضلًا عن الضوضاء والاهتزازات، مما يجعل تطبيق معايير السلامة المهنية أمرًا ضروريا، وهو ما لا يتحقق دائمًا في ظل ضعف الرقابة في كثير من المصانع.
احتجاجات متكررة في وجه التصفية والتجويع
بدأت شرارة الاحتجاجات مطلع العام في مدينة العاشر من رمضان، حيث نظّم عمال “سيراميكا لابوتيه” وقفةً احتجاجية للمطالبة بصرف متأخرات شهر ديسمبر 2024، وزيادة الرواتب، ووقف ما وصفوه بخطة تصفية العمال. وسرعان ما لحقت بهم احتجاجات أوسع نطاقًا في محافظة الفيوم، حيث أضرب أربعة آلاف عامل في مصنع “سيراميكا إينوفا”، للمطالبة بالحد الأدنى للأجور، وصرف رواتب متأخرة، وتوفير وسائل مواصلات ملائمة تُقلّهم من ضواحي ومراكز الفيوم.
وفي مشهد يؤكّد اتساع رقعة الغضب، انضم 2000 عامل من مصنع “الملكة” للأدوات الصحية – التابع للمجموعة نفسها – للإضراب ذاته. وانتهى إضرابهم مؤقتًا بعد وعود إدارية بزيادة العلاوات السنوية، في حين واصل عمال مصنع السيراميك إضرابهم.
تدخلات أمنية وتنازلات مجتزأة
لم يختلف الحال كثيرًا في فبراير، إذ دخل 3500 عامل من مجموعة “الأمير” لإنتاج السيراميك في إضراب مماثل، لكن تدخل الأمن الوطني غيّر مسار الاحتجاج؛ فبعد إلقاء القبض على عدد من العمال، اضطرت الإدارة لوقف نقل العاملين بالحافلات، مما أدّى في النهاية إلى فك الإضراب مقابل الإفراج عن المقبوض عليهم، دون تسوية واضحة للمطالب الأساسية. أما عمال “سيراميكا ڤيردي الإيطالية” بالعين السخنة، فقد قرروا إنهاء إضرابهم بعد تلقي وعود شفهية بإعادة هيكلة الأجور، في خطوة تعكس هشاشة المكتسبات العمالية أمام ضغط الواقع الأمني والإداري.
توقف الإنتاج بسبب الديون: من يدفع الثمن؟
بحلول مايو ويونيو، اتخذت الأزمة طابعًا أكثر حدة، مع توقف الإنتاج الكامل في شركة “الأمراء” بمدينة العاشر من رمضان، إثر قطع الغاز عنها بسبب مديونيات متراكمة. القرار المفاجئ وضع نحو 3000 عامل في مهبّ التشريد، دون أفق واضح للتسوية أو خطط إنقاذ جدّية. وفي الوقت نفسه، واجه عمال “سيراميكا إينوفا” إنذارات بالفصل رغم منحهم إجازات إجبارية، ما دفعهم للدخول في إضراب يوم 10 يونيو احتجاجًا على تأخر الرواتب وعدم تطبيق الحد الأدنى للأجور.
وقد أفضت مفاوضات جزئية إلى استئناف العمل، بعد تحويل جزء من راتب شهر أبريل إلى الحسابات البنكية للعمال، مع وعد بصرف راتب مايو في 22 يونيو، وهو ما لم ينهِ مشاعر الترقب والقلق بين صفوف العاملين.
من المسؤول
إن غياب آليات رقابية صارمة، واستمرار تدهور البيئة التشريعية والرقابية، جعلا العامل هو الحلقة الأضعف، التي تتحمل دائمًا تكلفة الإهمال الإداري والسياسات الاقتصادية الفاشلة.
تُظهِر هذه التطورات أن سوق العمل الصناعي في مصر، لا سيما في قطاع السيراميك، أصبح شديد الهشاشة، ومرشحًا لمزيد من الانفجارات الاجتماعية في ظل استمرار تآكل الضمانات القانونية، وتراجع دور الدولة كمنظّم وضامن للعلاقات العمالية. وإن كانت بعض التسويات الجزئية قد نجحت في كبح الغضب مؤقتًا، فإن جذور الأزمة لا تزال قائمة، خصوصًا مع استمرار تدني الأجور، وتأخّر صرف الرواتب، وتسريح العمال، وغياب الأمن الوظيفي.
في ظل هذه الأوضاع، يبدو ملف الاحتجاجات العمالية مرشحًا لأن يتحوّل إلى أحد الملفات الأخطر في المشهد المصري الراهن، مع احتمالية أن تتّسع رقعته وتتقاطع مكوناته الفئوية مع مطالب سياسية واجتماعية أوسع. ورغم القبضة الأمنية، إلا أن استمرار الغليان في المصانع يطرح تحديًا حقيقيًا أمام النظام، ويقدّم في الوقت نفسه فرصة مهمة للمجتمع والقوى الحية فيه، لتبني هذه المطالب العادلة، وتسليط الضوء عليها، ودفعها إلى صدارة المشهد، كمدخل لإحياء النقاش حول العدالة الاجتماعية وحقوق العمال في مصر