منذ مطلع مارس الماضي، تشهد ساحات المحاكم المصرية توترًا غير مسبوق بين نقابة المحامين والسلطة القضائية، توترٌ بدأ بإجراءات مالية محدود ظاهرها، لكنه سرعان ما كشف عن أزمة أعمق تتجاوز حدود الرسوم والنماذج والطوابع، لتصل إلى صميم العلاقة بين جناحين رئيسيين في منظومة العدالة: القضاة والمحامين.
القصة بدأت بقرار أصدره رئيس محكمة استئناف القاهرة، المستشار محمد نصر سيد، بفرض رسم جديد تحت مسمى “مراجعة الحوافظ”، بقيمة 33 جنيهًا عن كل ورقة تُودع في ملف القضية، إلى جانب رسوم أخرى على خدمات أساسية مثل استخراج الشهادات والصيغ التنفيذية للأحكام، وصلت في بعض الحالات إلى 242 جنيهًا.
قد تبدو هذه المبالغ زهيدة من منظور الميزانيات العامة، لكنها بالنسبة لمحامٍ يعمل على عشرات القضايا شهريًا، أو لمواطن بالكاد يستطيع دفع أتعاب المحاماة، تتحول إلى عبء ثقيل، يهدد مبدأ إتاحة العدالة للجميع.
من الوقفات الرمزية إلى الإضراب الشامل
لم يكن وقع هذه القرارات سهلًا على جموع المحامين. فبدلًا من أن تُعرض للمناقشة داخل نقابتهم أو تُطرح للحوار المجتمعي، جاءت كأوامر نافذة، وُضعت موضع التطبيق دون تشاور أو تمهيد. وهكذا، بدأ الغليان الصامت داخل أروقة المحاكم، وخرج إلى العلن مع أول دعوة للاحتجاج.
تُعد نقابة المحامين واحدة من أكبر النقابات المهنية في مصر والعالم العربي، إذ تضم نحو 700 ألف عضو، وفق تصريحات نقيب المحامين عبد الحليم علام في أكتوبر 2024، ما يمنحها وزنًا نقابيًا وشعبيًا بالغ التأثير. هذا الحجم يجعلها قادرة على حشد جماهيري واسع والتعبير عن قطاعات اجتماعية متنوعة، كما يعزز دورها كمكوّن أساسي في منظومة العدالة، لا سيما حين تتخذ مواقف جماعية كالإضراب أو المقاطعة، فتتحول إلى قوة ضغط يصعب تجاهلها سواء من قبل السلطة القضائية أو الحكومة.
في أبريل 2025، دعت نقابة المحامين أعضاءها إلى وقفات احتجاجية رمزية أمام المحاكم، أعقبها إضراب جزئي عن توريد الرسوم في الخزائن، ثم عقدت مؤتمرا صحفيا في مقر النقابة بالقاهرة لإعلان الموقف الرافض للرسوم الجديدة. ومع تصاعد حدة الاحتجاج، اتخذت الجمعية العمومية للنقابة خطوة غير مسبوقة بعد استطلاع رأي شارك فيه أكثر من 36 ألف محامٍ، انتهى بالدعوة إلى إضراب شامل يومي 7 و8 يوليو القادمين، ومقاطعة كاملة للمحاكم والنيابات والخزائن، وفق بيان أصدرته النقابة في 25 يونيو الماضي.
أزمة أعمق من مجرد رسوم
ورغم محاولات مجلس محاكم الاستئناف احتواء الأزمة بتخفيض بعض الرسوم – خصوصًا في قضايا الأسرة والعمال بنسبة 50%– وتحديد سقف موحد للرسوم، فإن تلك المبادرات قُوبلت ببرود، بل وأجّجت الغضب بعد صدور حكم قضائي بوقف الجمعية العمومية للمحامين، في خطوة رآها كثيرون تدخلًا فجًّا في استقلال النقابة، ومحاولة لكسر موجة التعبئة المهنية الجارية.
لكن ما يجري هنا ليس مجرد خلاف مالي. فالنزاع الظاهر يخفي تحته طبقات أعمق من المشاكل: وبالتحديد العلاقة بين القضاة والمحامين، وعن موقع النقابات المهنية في ظل السلطوية البيروقراطية، وعن ثمن “التحول الرقمي” حين يُفرض بلا بنية تحتية، أو يُحمّل للناس دون عائد ملموس.
لقد تحوّلت هذه الأزمة إلى مرآة تعكس ملامح التصدع في مفهوم “العدالة” نفسه، محامون يُعاملون كـ”خزائن متنقلة”، ومواطنون يواجهون تضخمًا في تكاليف التقاضي قد يجعلهم يعدلون عن المطالبة بحقوقهم من الأساس.
المحامي.. من مدافع إلى ممول؟
إن محامي اليوم، كما يقول بعض المحتجين، لم يعد فقط من يدافع عن موكله في قاعة المحكمة، بل أصبح مطالبًا بدفع رسوم عن كل حركة يقوم بها، وكأن عليه أن يُموّل مؤسسة القضاء التي يفترض أن تكون مستقلة، لا ممولة من جيوب المشتغلين بها.
في خلفية هذه المشهد، تدور تساؤلات أكبر: لماذا تغيب الشفافية عن القرارات المالية المرتبطة بالعدالة؟ لماذا لا تُستشار النقابات المهنية حين تُسنّ إجراءات تمسّ جوهر عمل أعضائها؟ ولماذا تبدو السلطات أكثر استعدادًا لمخاطبة الشارع بالمراسيم، لا بالحوار؟
النقابات المهنية.. آخر خطوط الدفاع
في بلد تغيب فيه المجالس التشريعية المنتخبة بشكل نزيه، وتتقلص فيه مساحة المشاركة، تصبح النقابات المهنية من آخر خطوط الدفاع عن الحد الأدنى لحقوق المواطنين. ولعلّ ما يفسر هذا التصلب في إدارة الأزمة، هو إدراك الطرفين أن المعركة الحالية ليست على 33 جنيهًا للورقة، بل على من يملك الكلمة العليا حين تتقاطع السلطة مع المهنة.
وفي زمن تتسع فيه الفجوة بين السلطة والمجتمع، تظهر احتجاجات المحامين كتعبير عن أزمة أعمق يعيشها القطاع المهني كله، في ظل انكماش الحريات، وتضييق الخناق على العمل النقابي المستقل، وتنامي النزعة الجبائية التي ترى في المواطن والمشتغل مجرد مصدر تمويل لا شريك في القرار.
فمن يملك حق فرض الرسوم؟ ومن يملك حق الاعتراض؟ والأهم: من يدفع فعليًا ثمن “العدالة” في مصر اليوم؟