في القاهرة والإسكندرية، لم يعد خبر “سقوط عقار” يستوقف كثيرًا من الناس. تمرّ الكارثة في شريط الأخبار كما يمرّ خبر الطقس: “انهار عقار من خمسة طوابق في حي كذا، وفرق الإنقاذ تواصل البحث عن ناجين”. ثم لا شيء. لا حديث رسمي عن الأسباب، لا مساءلة حقيقية، لا إعلان لخطة طارئة. فقط صمت طويل، يتبعه انهيار جديد في حي آخر.
تسقط البيوت فوق ساكنيها في شبرا، وغبريال، والمنشية، وحلوان، وكرموز، وعين شمس، وكأن المدن قررت أن تبتلع أبناءها ببطء. لكنّ الحقيقة أن من يبتلعهم هو الإهمال، وغياب التخطيط، والتعامل مع العمران كسلعة تُباع وتُشترى، لا كحقّ من حقوق الإنسان.
ففي 17 فبراير 2025، انهار عقار مكون من ثلاثة طوابق في منطقة كرداسة، أودى بحياة عشرة أشخاص وأصاب ثمانية آخرين. وفي حي الوايلي، سقط في ديسمبر الماضي مبنى من ستة طوابق على رؤوس سكانه، رغم تحذيرات سابقة، وأسفر عن ثمانية قتلى. أما في حي حدائق القبة، فقد شهدت المنطقة انهيار أربعة مبانٍ دفعة واحدة، نُقل إثرها الضحايا تحت الأنقاض، فيما نجا بعض السكان لمجرّد أنهم غادروا قبل ساعات من الحادث. هذه ليست حالات فردية، بل جزء من نمط متكرر في مدن تعيش تحت سقف مهدد بالسقوط.
عدد المنازل الآيلة للسقوط
بحسب آخر الإحصاءات الرسمية الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في عام 2017، يوجد في مصر نحو 97 ألف عقار آيل للسقوط، بالإضافة إلى أكثر من سبعة ملايين مبنى مخالف أو غير مرخّص، ينما تُقدّر مركز الحق في السكن عدد المباني المهددة بـ1.4 مليون
وفي الفترة بين 2014 و2020 وحدها، انهار أكثر من ألف عقار، خلّفت نحو 500 قتيل، ثلثهم من الأطفال، وأجبرت أكثر من 2500 أسرة على النزوح القسري. أما في الإسكندرية، فقد وثّقت الجهات المحلية سقوط قرابة 290 عقارًا خلال العقدين الماضيين، وسط تحذيرات من أن نحو 7000 مبنى آخر مهدد بالانهيار بسبب تآكل التربة وتسرّب المياه المالحة إلى الأساساته
في مصر، لا يُنظر إلى “الحق في السكن” كجزء من منظومة حياة متكاملة، بل كعبء على الدولة، أو كفرصة استثمارية يجب خصخصتها. وفي قلب هذا التفكير، تُترك الأحياء الشعبية والعشوائيات لتتعفّن عمرانيًّا وإنسانيًّا، ثم يُلام سكّانها على ما هم فيه من بؤس وتكدّس.
العشوائيات: شماعة سهلة أم مرض أعمق؟
من السهل أن نضع اللوم كله على “العشوائيات”. فالكلمة نفسها باتت تُستخدم كأنها مرض معدٍ، أو عار يجب استئصاله. لكنّ العشوائيات، في حقيقتها، ليست سوى استجابة بشرية لغياب الدولة. حين عجز الناس عن العثور على سكن آمن ومناسب في ظل فقر مدقع وغياب بدائل، بنوا بأيديهم ما استطاعوا. المشكلة ليست فيهم، بل فيمن تركهم لعقود بلا خدمات، ولا تخطيط، ولا رخص، ثم عاد ليهدم بيوتهم باسم التطوير.
المؤلم أن بعض هذه المباني المنهارة لم تكن أصلاً في “عشوائيات” بمعناها الرسمي. بعضها في أحياء كانت راقية يومًا ما، ثم تراجعت بفعل الإهمال، وغياب الرؤية طويلة الأمد، وتفشي الفساد داخل أجهزة المحليات. هكذا تتآكل المدن من أطرافها ومن قلبها، حتى لم يعد يُعرف أين يبدأ “التدهور”، وأين ينتهي.
أين ذهبت خطط التنمية الحضرية؟
ليست المشكلة في غياب الحلول، بل في غياب الإرادة الحكومية لتطبيقها بعدل. خلال العقود الماضية، أُعدّت عشرات الدراسات حول إعادة تأهيل الأحياء القديمة، وتطوير البنية التحتية، وتحديث قوانين البناء، لكن أغلبها بقي حبيس الأدراج، أو تحوّل إلى “بوسترات” تعلق في المؤتمرات. في المقابل، تُوجَّه مليارات إلى مشروعات جديدة خارج المدن المتهالكة، وتُترك المناطق التاريخية تعاني من التآكل العمراني والاجتماعي.
في المقابل يتراوح سعر المتر في مشروعات الإسكان المدعوم حكوميا – كبرنامج “سكن لكل المصريين” – بين 10 آلاف و15 ألف جنيه، وهو ما يعني أن وحدة مساحتها 90 مترًا قد تُكلّف نحو مليون و300 ألف جنيه، قبل احتساب الفوائد البنكية. وإذا أضفنا إلى ذلك مقدمًا يتجاوز 50 ألف جنيه، وسنوات طويلة من الأقساط الشهرية، ندرك أن هذا “الدعم” لا يخاطب محدودي الدخل بقدر ما يستهدف شريحة وسطى عليا تتقلص يومًا بعد يوم.
وبينما تُشاد مدن جديدة بتشطيبات فاخرة في قلب الصحراء، يُترك سكان العشوائيات والمناطق المتد
هورة يواجهون وحدهم خطر الانهيار، أو يُطلب منهم الرحيل إلى هوامش لا روح فيها، بدعوى التطوير. هكذا تتحول أزمة السكن في مصر من مسألة خدمات إلى معضلة طبقية صريحة، يُعاد فيها إنتاج الفقر تحت لافتات التطوير.
الختام
عندما يسقط بيت في حي فقير، لا يسقط الطوب وحده. يسقط معه شعور الناس بالأمان، ويهتز ما تبقّى من ثقتهم في مؤسسات الدولة، ويتآكل رابطهم بالمكان. فالمدن ليست مجرد أبراج شاهقة، بل حياة مشتركة. وإن لم تُبْنَ هذه الحياة على عدالة وإنصاف، فستستمر البيوت في السقوط، ومعها ما تبقّى من شعورنا أننا نعيش في بلد لا يهدمنا.
كل ما يطلبه الناس ليس رفاهية، بل كرامة: أن يسكنوا بيوتًا لا تسقط على رؤوسهم، وأن يجدوا من يُصلح المواسير قبل أن تُغرق الدور الأرضي، وأن تُعامل أحياؤهم على أنها جزء من الوطن، لا مجرد عبء على موازنته.