في الوقت الَّذي يُخطُّ فيه هذا التحليل، وبعد انتهاء ذروة الموجات الصيفيَّة الحارّة، وعلى مشارف فصل الشتاء بعد بداية العام الدراسي؛ فإنّ الأخبار تفيد بتطور سلبيّ جديد في ملف تخفيف الأحمال الذي بدأ فعليًا قبل حوالي 4 شهور، ترتفع معه مدد الانقطاع في المدن إلى ساعتين على الأقل يوميًا.. فما الذي يعنيه ذلك؟
السردية الرسمية
إذا ما سألنا سؤالًا عمّا يستند إليه النظام الحالي من ركائز موضوعيَّة للحكم والبقاء، بجانب منطق القوَّة المفروغ منه؛ فإنّ الإجابات لن تخرج عن “الفاعليَّة” في حلّ المشكلات الخِدمية الّتي تخص حياة المواطن اليوميَّة، وفقًا للعلاقة التعاقديَّة الجديدة التي أرساها هذا النظام: ادفع ثمن الخدمة لتحصل عليها بانتظامٍ وكفاءة!
وعليه فحتَّى أسابيع قليلة مضت، كانت الآلة الإعلاميَّة الرسميَّة إذا أرادت التفاخر بـإنجازاتٍ ملموسة في الحياة اليومية للمواطن وفقًا للعقد الاجتماعي الجديد الخاص بدفع ثمن الخدمة كاملًا للحصول عليها على نحوٍ مرضٍ؛ فإنها كانت لا تجد أكثر من ملفّ الكهرباء تجسيدًا لهذا المبدأ.
فبينما كانت الخدمة غير مستقرّة مما سبب إحباطًا وخسائر للمجتمع عام 2012؛ فإنّها عادت، وبقوَّة هائلة، بعد التحرير التدريجيّ لأسعار بيع الكهرباء للمواطنين، حتى رفع الدعم نهائيًا بدءًا من 2020، وتدشين محطاتٍ عملاقة جديدة لتوليد المزيد من الطاقة ، حتّى صارت الدعاية الرسميَّة تتحدث عن تحول البلاد إلى مركز إقليميٍّ للطاقة.
ولم لا؟ فقد دُبِّر التمويلُ الدولي اللازم لبناء المحطّات، وأعُلن الاكتفاء الذاتيُّ من الغاز نهاية 2018، ودُشّنت محطَّات توليد الطّاقة من الرّياح والشمس وفقًا للأجندة الدوليَّة للتحول نحو الطاقة النظيفة، والمواطن يدفع حقَّ الدولة بانتظام تسعيرًا وأتمتةً مع انتشار العدّادات الكوديَّة، ودول الجوار تفاوضنا لاستيراد الكهرباء بالعملة الصّعبة. كذلك تنتظرنا ثورةٌ طاقويَّة واعدة في ملفّ الضبعة النووي ومحطّات الهيدروجين الأخضر، لتمسي المعادلة الرائجة رسميًا، أنه خلال أقل من عقد، تمكن النظامُ من توفير فائض من الطاقة، شبه المستدامة، بفضل اكتشافات الغاز المحليَّة، مع صعود للعناية بالطاقة النظيفة، وتوافر طلب منزليّ من الداخل وتعطّش إقليمي من الجوار.
الغاز، والطاقة النظيفة، والطلب، والتسعير العادل، واستقرار الخدمة. إنجاز مكتمل، يجعل من القدرة الحقيقية على الفعل إحدى ركائز مشروعية بقاء النظام وفقًا للدعاية الرسمية.
انهيار النموذج
في الكواليس، كانت أصواتٌ فنيَّة مستقلة تهمس متسائلة عن العبثيَّة الكامنة بفجاجة في خطة الحكومة في إدارة ملفّ الطاقة: لمَ الاقتراض لتوفير فائض طاقة مترهل بإجمالي يصل إلى 60 جيجاوات، رغم أنّ أقصى استهلاك يوميّ مسجلّ في تاريخ مصر لا يتعدّى 34 جيجاوات تقريبًا؟ ولم يُستورد غازٌ بالعملة الصعبة من الاحتلال ويدخل في الاستهلاك المحليّ حين كنا نحقق فائضًا تصديريًا بالفعل من الغاز؟
لمَاذا تُطرح محطّات دشّنت حديثًا للبيع للمستثمرين الأجانب بعد ما أنشئت بأموال القروض دون أي عوائد ملموسة؟ ولمَ لمْ تتم صفقات البيع الّتي بدأ الحديث عنها منذ 4 أعوام تقريبًا؟ ولم تتعثّر مشروعات الربط الكهربائيّ مع دول الجوار رغم مزاعم إنجازها سريعًا لتصريف فوائض الطاقة غير المستغلّة في الشّبكة؟ من الّذي أصرّ على افتراض أنّ مشكلة البلاد الطاقويّة كانت في عدم كفاية المحطّات، بينما تشير التقارير أيضا إلى أنَّ المشكلة منذ عام 2012 كانت في توفير الوقود؟
سعت تلك التساؤلات وغيرها مما لا يسع المقام لذكره إلى توضيح أنّ سرديَّة النظام عن “الحلقة المكتملة” في إدارة ملفّ الطاقة معيبة؛ ومع ذلك، فإنها لم تجد الصدى المعتبر لدى الرأي العام، بالنظر إلى استقرار إمدادات الكهرباء المنزليَّة بلا مشاكل، وهيمنة الرواية الرسميَّة.
ثمّ وقع ما لم يكن في الحسبان. أسوأ السيناريوهات تقريبًا. لحظة الانكشاف. فجأة، عاد سؤال الكهرباء مجددًا، بعد ما ظلّ مغلقًا معظم فترة حكم السيسي، وموضوعًا للتغنّي بالقدرة على التخطيط والإنجاز، ومعه بدأت تتحرّك ورقة الدومينو: فالمحطّات الجديدة، يتقلص عمرها الافتراضي، المحدود أصلاً، لتشغيلها بأقلّ من طاقتها، نظرًا لعدم وجود طلب يضاهي المعروض، وحقل ظهر للغاز يعاني من مشاكل فنيَّة تقلل من الإنتاج، وبيع الفوائض للجوار حلمٌ متعثر، والمقرضون يتحفّظون على بيع المحطّات الجديدة، والميادين غارقةٌ في الظلام ليلًا.
الأسوأ أنَّ النظام يتوحَّش في العودة إلى استخدام “الطاقة غير النظيفة”، كمًا ونوعًا، لتوفير الغاز المحليّ، للتصدير وتوفير الدولار، ضمن برامج وسياسات متفق عليها مع الاتحاد الأوروبيّ، إلى درجة تضاعف الاعتماد على المازوت بنسبة 488% عام 2022 مقارنة بالعام الذي يسبقه.
لقد وجد النظام نفسه عاجزًا حتّى عن مسايرة النموذج الذي فرضه على نفسه، فقد عجز عن استدامة الخدمة مقابل رفع الدعم عنها؛ إذ يدفع المواطنُ سعر الكهرباء بلا دعم في الموازنة، ولكنّه لا يحصل على ما يكفيه منها، مع تفاقم الأزمة شتاءً إثر وقف إسرائيل لصادرات الغاز إلى مصر؛ ليصبح هذا النظام – لأول مرة تقريبًا على هذا النحو – مجرداً من أيّ مشروعيّة حقيقية، باستثناء دوره البدائيّ في حفظ الاستقرار.
شاركنا تجربتك حول معدل انقطاع الكهرباء في مدينتك.