بالتزامن مع شروع الاحتلال في مخطط كيّ الوعي وتدفيع الثمن وعقاب سكَّان غزة بالنار والحصار على هجوم السابع من أكتوبر، برز الحديث عن الدور المصريّ الضَّروري في إغاثة الغزيّين.
للتركيز على مصر أسبابه الوجيهة، على رأسها مكانة القاهرة في الإقليم، والروابط الجغرافية والتاريخية والدينية والاجتماعية بين أهل غزة وجيرانهم المصريين، فضلًا عن امتلاك مصر بنيةً تحتيَّة مؤهَّلة للقيام بهذا الدور، من معابر وموانئ ولوجستيات.
فإذا كان الاحتلال يطوّق غزّة من الشَّمال والشرق بريًا، ومن الغرب بحريًا، ويهيمن على المجال الجوّي على مدار السَّاعة، ولا يمتلك القطاع ميناءً جويًا أو بحريًا، كما باتت الأنفاق الحدوديَّة مع مصر ضربًا من التاريخ؛ فمن البديهي أن تكون مصر “الشقيقة الكبرى” المنفذَ الرسميّ الوحيد المتاح أمام سكَّان القطاع.
الدعاية
بوضوح، طلبت مصر رسميًا من العالم، عبر بيان من وزارة الخارجيَّة يوم 13 أكتوبر إرسال المساعدات الإنسانيَّة من غذاء ودواء ومستلزمات إعاشة إلى ميناء العريش الجوّي، مع التأكيد على انسيابيَّة عمل معبر رفح من الجهة المصريّة، دون قيود.
وعليه، التقطت وسائل الإعلام الرّسميّة والأذرع الإعلاميَّة واللجان الإلكترونيّة طرفَ الخيط، فأبرزت تلك اللوجستيات دعائيًا من عدة نواح، منها بصيرة “القيادة السياسيَّة” التي فطنت مبكرًا إلى أهميَّة إحياء مرافئ العريش الجويَّة والبحريَّة، ونجاح الحكومة في بسط السيطرة على شمال سيناء بعد سنوات من الحرب مع الجماعات المسلحة.
عزّزت الحكومة أيضاً تلك الحملة الدعائية غير المسبوقة لترويج عدم مشروعيَّة احتجاجات الأهالي على تدشين المطار والميناء، بالحديث عن أن تلك اللوجستيات جزء من خطة وطنيَّة متكاملة تتضمَّن مدّ الأنفاق إلى شمال سيناء وتأسيس سكك حديديَّة جديدة.
بالفعل، بدأت الشّحنات الدوليَّة والأمميَّة تتدفَّق بالأطنان تباعًا إلى تلك الموانئ الجوّيَّة والبحريَّة من الجهات الإنسانيَّة وأصدقاء فلسطين، وحتَّى من بعض الدول الغربيَّة التي أرادت غسلَ سمعتها التي تلطخت بدعم الاحتلال بالعتاد والمال.
على سبيل المثال، أرسلت الهند نحو 40 طنًا من المساعدات الإنسانيَّة جوًا إلى مطار العريش في 22 أكتوبر، وبعدها بثلاثة يام قالت فرنسا إنها بدأت في تدشين ما وصف إعلاميًا بالجسر الجوّي إلى نفس المطار بغرض إغاثة سكان القطاع، وبحلول 4 نوفمبر كان مطار العريش قد استقبل 72 طائرة من 17 دولة محملة بـ 1500 طن من المساعدات.
كذلك استقبل ميناء العريش البحري مطلع نوفمبر سفينة إنزال فرنسيّة عملاقة تعملَ كمستشفى عائم لتقديم الإغاثة لمصابي الحرب من القطاع، وبحلول 19 يناير 2024 كانت تركيا قد أرسلت 3 سفن عملاقة إلى نفس المرفأ البحري محمَّلة بأطنان من المساعدات وسيّارات الإسعاف.
الواقع المرير
بالرَّغم من تلك الحملة الدعائيَّة العملاقة لهذه القوافل الدوليَّة واللوجستيات الوطنيَّة، فإنَّ الوضع على أرض الواقع كان مختلفًا تمامًا من جهة ترديه وبؤسه، ففي شمال القطاع بعد 3 أشهر من الحرب، بدأ الحديث عن “مجاعة” نتيجة شحّ الموارد والغلاء الباهظ للموجود منها، تحت ضغط الاستغلال والتربّح من الندرة والهلع من النَّفاد التام للوازم الحياة، إلى درجة تناول البشر لأعلاف الحيوانات.
هذا ما يخص إدخال المساعدات، أما عن خروج المصابين، فقد ثبّتت السلطات المصريَّة معدلًا يوميًا يتراوح في المتوسّط بين 10 – 20 مصابًا، فيما يشبه عمل “القطَّارة”، حيث يتسابق آلاف الجرحى على فرصة النجاة والهروب من جحيم غزَّة إلى جنَّة العالم الخارجي.
أصبح المشهد الأكثر اعتيادًا، هو دخول عدد محدود للغاية من الشاحنات الإغاثيَّة يوميًا بما وصل في حده الأقصى بعد أكثر من 100 يوم من الحرب إلى 230 شاحنة، يتقاتل عليها أكثر من مليون من أهل الجنوب والنازحين إلى خان يونس ورفح، مع استحالة وصول أيّ كميات معتبرة إلى الشمال.
وبالرغم من أنّ مصر قد برّرت رسمياً شحَّ المساعدات العابرة، بالرغبة في عدم التصعيد مع إسرائيل وتجنب القصف الجوّي، إلّا أن التعنت في إخراج المصابين، وعدم الاستفادة من الاتهام الإسرائيلي لمصر في محكمة العدل الدوليَّة بمنع المساعدات عمدًا، يشي بأنّ هناك رغبةً مشتركةً في هذا الوضع.
الأسباب
يساعد اعتياد السلطات المصرية رسميًا تبريرَ العجز عن زيادة المساعدات بالخوف من إسرائيل في إعادة تلميع الأخيرة إقليميًا، بعد ما تعرضت صورتها الذهنيَّة كرمز للقوة المطلقة إلى التهشّم صباح 7 من أكتوبر. كما يساعد التكدّس الدّائم للشَّاحنات المحمَّلة بالمساعدات في الطريق إلى المعبر وتقطير إدخال المصابين في “رفع العتب” الأخلاقي والتاريخي عن السلطات المصريّة، لتكون الحجَّة: نجحنا في استلام المساعدات جوًا وبحرًا عبر موانئ العريش، ولكنَّ إيصالها للقطاع متعذّر لظروف قاهرة.
ومن الواضح، أنّ هناك رغبة دوليَّة مشتركةً مضمرة لإذلال أهل غزَّة الذين يمكنهم رؤية المياه والغذاء والدواء مكدّساً على بعد أمتار منهم، ولكنّهم معاقبونَ، محرومون من الجنَّة، بجريرة الاحتفاء بيوم العبور واحتضان الفصائل والسَّعي للتحرّر الحقيقي.
أخيرًا، فقد نشأ على هامش تلك الحملة طبقة من المستفيدين من معاناة أهل غزَّة، فالبعض نجح في السّطو على شيءٍ من البضائع المكدَّسة مبررًا ذلك، بأنها لا تدخل لمستحقّيها وقد تفسد، والبعض الآخر يحصل على ما يصل إلى 10 آلاف دولار لتسهيل خروج الفرد المحاصر بعيدًا عن الإذلال الرسمي.
شاركنا: هل ترى أنّ تلك الأسباب المطروحة صحيحة أم لديك رأي مختلف؟