يعدّ البحث في لغة الخطاب السَّائد بين السّلطة والمجتمع، طبيعته ومفرداته – بلاغته وشفافيَّته، أحدَ أبرز المقاييس غير الكميَّة لتحديد مستوى الديمقراطيَّة وسيادة القانون واحترام المواطنين في المجتمعات، ولهذا السَّبب تفرض الجامعات مقرراتٍ وفصولاً دراسيَّة لدراسة الخطاب ضمن حقول متقاطعة بين اللغة والسّياسة.
وممّا يمكن ملاحظته في مصر خلال العقد الأخير على نحو شديد الوضوح، هو انحطاط وابتذال لغة الخطاب الصَّادرة عن السّلطة إلى المواطنين، مما يخلق جوًا عامًا من التوتّر والاحتقان والتربّص، بالتّوازي مع الإجراءات المشددة التي تتبعها السّلطة في الإدارة والحكم المحلّي، والَّتي لا تلقي أيَّ بالٍ عادةً لشواغل المواطنين.
ازدراء النخب
من المفترض أنَّ النخب التقنيَّة، المستقلَّة أو غير المسيَّسة، هي أحد روافد الوجاهة والمشورة والوساطة بين السّلطة والشعب، إلّا أنّ هذه الثّوابت العامَّة المعروفة لدى كلّ المجتمعات لا تلقى اعترافًا عند السيسي القادم من المؤسسة العسكريَّة.
يتجلَّى هذا الازدراء من رأس السّلطة في مصر للنخَب في الخطاب والمواقف باطّراد، فقد صرخَ الرجل في الرّأي العام على الهواء مباشرةً في إحدى المناسبات مهدداً ومتفاخراً بأنه “مش سياسي”، وكأنَّ العمل السياسيَ والحزبيَّة والتنافس على تمثيل الفئات سبَّة ينبغي التبرّؤ منها.
في شرحه للطَّريقة التي حكمت قرار التعويم الأول للجنيه المصري عام 2016، يقول السيسي، مؤكدًا على ازدرائه آراءَ المتخصّصين من رجال الاقتصاد والأمن الاجتماعي، أنّهم جميعًا عارضوا هذا القرار، إلّا أنّ رأيه الشخصيَّ هو الذي تقرّر في النهاية.
كذلك قرّر السيسي منذ عدّة سنوات الامتناعَ عن اللقاءات الصحافيَّة المحلّيّة ذات الطابع النقديّ، أو اللقاءات العابرة غير المرتَّبة، معللًا ذلك بعدم إلمام المحاورين بالمواضيع التي يتناولونها، مستعيضاً عن ذلك بنمطٍ آخر، وهو الحديث المنفرد من جهة واحدة في الافتتاحات الدوريّة للمشروعات، أو المداخلات الهاتفيَّة مع إعلاميين محددين بين الحين والآخر، وصولًا إلى التسجيلات المصوَّرة مع العجائز كلّ جمعة.
في هذا الصدد أيضاً، سيكون من الصعب على الرأي العام المصري نسيانُ انفعالات السيسي على البرلماني الذي طلب منه رفع الحد الأدنى للأجور، أو على الشيخ السيناوي الذي تحدث عن التهجير، أو على حلول الاقتصاديين في المؤتمر الشهير في العاصمة الإداريّة.
ابتذال الخيال
بحكم منصبه على الأقل، وبصرف النّظر عن طريقة وصوله له، لا يمثّل السيسي نفسه، إذ ترى شريحة غير بسيطة من المصريين أنّه يسبب لها إحراجًا بتصريحاته ومفرداته وبالأفكار الَّتي تراوده ضمن ما يعتبره محاولاته لحلّ مشاكل البلاد.
فربما من غير المسبوق أن يتحدّث رئيس ما عن استعداده لـ “بيع نفسه” لتوفير سيولة ماليَّة للدولة، ومع مبالغته الشديدة التي تنعكس على لغة جسده في إظهار الاحترام لحكَّام بعض الدول الداعمة، انتقدَ السيسي تدخل دول أخرى في شؤون مصر، مبررًا ذلك النقدَ بأنّ هذه “الدولة الصغيرة لا يمكنها تحمل جزء من مصروف مصر” وعليه – من وجهة نظره – لا يحقّ لها التدخل، فالتدخل مرهون بالقدرة على الدَّفع!
كما يثير الخيال المهيمن على السّيسي وانعكاسه في لغته العامَّة تساؤلاتٍ مشروعة عمّا إذا كان الرّجل يعاني من عدم توفيق في اختيار مفرداته أو أنّه يتعمَّد النّزولَ إلى هذا المستوى لأسبابٍ غير معروفة، فإذا كانت لغة الخطاب هي “كشفت ظهرها وعرّت كتفها” والباكتّة والترمادول، رغم مروره “على الفلاتر”، فكيف به إذا لم يمرّ؟
وقد دأبَ السيسي على تصوير المرأة المصريَّة، المثاليَّة من وجهة نظره والمستحقَّة للثناء الدائم أمام العالم، كأداةٍ للدعاية الانتخابيَّة والرقص المبتذل أمام اللجان في المناسبات التعبويَّة، دون أيّ خجل.
المواطن الآثم
لا يدين السيسي للمواطن بأيّ فضل، وإنما على النقيض فإنّ المواطن هو من يدين للسيسي بالفضل على تطوّعه لقبول منصب الرئيس، أو التفويض كما حدث قبل عقد. وعليه لا بدّ للمواطن أن يتحمَّل “التوبيخَ” الدّائمَ من الرئيس الذي يحتكر حبَّ الوطن ومعرفة مشكلاته وحلولها؛ التوبيخ على الوزن وشكل الجسد، والتشكيك في الوطنيَّة والأهليَّة، بل وتلقّي التهديدات بالعقاب حال عدم الانصياع الفوري للأوامر، على غرار التلويح بالجيش إبّان حملة إزالة مخالفات البناء.
ولا يحقّ للمواطن مساءلة السيسي، فالرجل “هيبني وهيبني” القصور ويشتري الطائرات كما يريد، والخطأ يتحمَّله المواطن وحده الَّذي قام بثورة أدّت لضياع النيل وتبديد احتياطي العملات الأجنبيَّة، والضابط الذي رقّى نفسه إلى مشير ينبغي شكره على توليه المسؤوليَّة في “بلد كُهَن”. حتى انتخابات الرئاسة، فلم يكلّف نفسه خلالها بتقديم برنامج انتخابيّ، أو حتَّى صورة دعائيَّة جديدة، لتنتهي بالعودة إلى انقطاع التيَّار، والفوز برقمٍ خياليّ يصل إلى حوالي 40 مليون صوت.
شاركنا رأيك: كيف وصلت الأمور في مصر إلى هذا المستوى؟