تحتاج مصرُ إلى الصناعة، لا خلاف على ذلك، خاصةً في ظلّ تضاؤل إمكانيَّات التوسع الزراعي بسبب شحّ المياه العذبة، وضرورة التّصدير لتوفير عملة صعبة تكفي فاتورة استيراد الضروريَّة. وفي نفس الوقت، فإنَّ عصب الصناعة، بلا شكّ، هي الصّناعات الأوّليَّة الّتي تعطي قيمةً مضافة إلى المواد الخام، وتدخل في الصّناعات المحليَّة المتنوّعة، ويمكنُ بيع الفوائض منها إلى الخارج القريب وزيادة النّقد الأجنبي.
قد يبدو ذلك كلامًا إنشائيًا يشبه دروس الجغرافيا في التّعليم الأساسي؛ ولكن تقول القصَّة إنّ هناك مؤسسةً مصريَّة عريقة، يتجاوز عمرها 70 عامًا، متخصصة في صناعة مواسير البنى التحتيَّة والصَّرف، وتشغّل عشرات العمال، بما لا يقلّ عن 1500 عامل، وتمتلك مقرّين، أحدهما في الجيزة، والثاني في الإسكندريَّة، تحمل اسم “النصر للمسبوكات”.
أراضٍ قائمة، ومخازن عملاقة، وميناء نهري شمال الجيزة، وبنية تحتيَّة تقنيَّة، وعمالة مدرّبة، واسم تاريخي يصدّر لـ 22 دولة ويحتلُّ مركزًا عالميًا، ومشاكل إداريَّة هيكليَّة.. ما الذي ينبغي فعله بتلك المعطيات؟
اتركها للموت!
نظريًا على الأقلّ، فإنَّ أمام هذا الكيان، مهما بلغت مشاكله، فرصةً للعودة إلى الحياة، إذا ما توافرت إرادةٌ لاستغلال نقاط القوَّة وهي كثيرة، وإعادة هيكلة الشّركة بتسوية الديون أو جدولتها، وضخّ أموال جديدة لبثّ الروح في المؤسسة الّتي تصنع منتجاتٍ إستراتيجيَّة مطلوبة في الداخل والخارج.
ولكنَّ ما حدث على أرض الواقع، كان شيئًا مغايرًا، إذ برز نمطٌ انسحابيٌ من طرف الدولة تجاه هذه المؤسسة، مع محاولةٍ ضمنيَّة لإثقالها بالأزمات المتراكمة عبر الزّمن، ضمن مخطط يرنو في الأخير إلى تصفية الشركة وتشريد العمَّال وبيعها إلى مستثمر خليجيّ بأقلّ سعر، على حدّ اعتراف كمال عبد الفتاح أحد أبرز قيادات الشّركة.
المؤامرة
شأنها شأن أيّ مشروع، فقد اقترضت الشركة، مطلع الثمانينيَّات، قرضًا ميسّرًا من الخارج، أوروبّا تحديدًا، لتمويل التوسّع الصناعيّ الّذي مكّنها من أن تصبح “الرابعة” في مجالها عالميًا، وامتلاك مخزون بقيمة 450 مليون جنيه، يكفي احتياجات مصر لمدة 3 أعوام في 2012.
ولأنها شركةٌ تابعة للحكومة المصريَّة، وذراع من أذرع الشركة القابضة للصناعات المعدنيَّة، فإنَّ القرض السويسريّ الألمانيّ، والذي بلغت قيمته 155 مليون مارك ألماني، كان بضمان الحكومة المصريَّة، وهو أمرٌ بديهيّ، حيث افتتح مبارك التوسعات الصناعيَّة المدعومة أوروبيا نهاية الثمانينيَّات.
وبعد حرب الخليج الأولى الّتي شاركت فيها مصر مع القوى الكبرى لتحرير الكويت مقابل الإعفاء من الديون الأجنبيَّة وإعطاء دفعة استثماريَّة للاقتصاد 1991، كان الدين الألمانيّ السويسريّ واحدًا من القروض التي أعيد النظر فيها، كما تقول القيادات التاريخيَّة للشركة مثل عوني معتمد ورتيبة عامر.
المفاجأة أنَّ الحكومة المصريَّة، ممثلةً في بنك الاستثمار القوميّ، رفضت إعادة النظر في الدين الأوروبيّ، وظلّت تطالبُ به، باعتبارها ضامنةً للشركة عند الاقتراض، مضافًا إليه الفوائد المتراكمة، رافضةً أيَّ تسويةٍ مع الشركة.
التفكيك
بناءً على رفض الشركة داخليًا الانصياعَ إلى المطالب البنكيَّة بدفع مستحقّات ملياريَّة ترى قيادات الشركة عدم عدالتها، فإنَّ الحكومة في عهد عاطف عبيد باعت حصّتها في الشركة التي تحولت من تبعيّة الشركة القابضة للصناعات المعدنيَّة إلى “شركة مساهمة” يسري عليها قانون 159 لسنة 97، وتمتلك البنوك حصة أغلبية فيها مقابل 32% لاتّحاد العاملين.
باتت المعادلة هي تحالفٌ بنكي، على رأسه بنك مصر، يمتلك حصَّة الأغلبية في الشركة، نظير ما اعتبرته البنوكُ رفضًا من الشركة لسداد القرض الألمانيّ وفوائده الملياريَّة المتراكمة، وانتقلت حصة الدولة التي تقلصت بالفعل إلى الثلث، للعمّال، الّذين تحولت وظيفتهم منذ مطلع الألفيَّة إلى جهود قانونيَّة وشعبيَّة لمنع البنوك من تصفية الشركة.
ما الجديد؟
قبل عامٍ تقريبًا احتجّ العمال احتجاجًا تاريخيًا، وصل إلى احتجاز قيادات الشركة المعينة من البنوك داخل المقرّ الإداري بالجيزة بالتزامن مع الإضراب عن الطّعام، ولنتخيل معًا ماذا كان الغرض الأساسي من الاحتجاج؟ المطلب الرئيس هو عودة الشركة إلى العمل والإنتاج، بدلًا عن تفكيكها تدريجيًا بمرور الزّمن!
منذ مطلع الألفيَّة، تصدى العمال بالوسائل السلمية المتاحة، إلى محاولات عديدة من التحالف البنكي الذي آلت إليه معظم الحصة في الشركة تحت ذريعة التعثر في سداد المديونيَّة الأوروبيَّة، لتفكيك الشركة وبيع أراضيها المتميزة، لاسيما فرع العامريَّة بالإسكندريَّة بأبخس الأثمان.
الوضع الآن، هو أنّ الشركة باتت موسومة بوسمٍ يشبه العلامات الّتي توضع على العقارات المطلوب إزالتها رغم كونها مأهولة بالسكّان (العمّال)؛ فالحكومة رفعت الحماية عن الشركة منذ أكثر من 20 عامًا، والبنوك تراهن على عامل الوقت، والعمّال بلا حول ولا قوّة، وسط أحاديث تهمس بمصير الحديد والصلب.