منذ عدة سنوات أعلنت الحكومة المصرية عزمها تدعيم البنية التحتية بشكل قوي في القاهرة ومعظم المدن الرئيسية في مصر، من خلال إنشاء طرق ومحاور لخدمة المواطنين والتخفيف من مشكلة المرور المتأزمة منذ زمن طويل.
بدأت الدولة بشكل متتالي الإعلان عن تلك المشاريع بحفاوة شديدة، كان آخرها إعلان السيسي في مؤتمر القمة العالمية للحكومات في دبي أن الهدف من إقامة شبكة الطرق في مصر هو توفير 8 مليار دولار سنويا تمثل إجمالي حجم الوقود المستهلك في إشارات المرور، بالإضافة إلى حل مشكلة التلوث.
تعاملت الدولة بأحادية مع تلك المشكلة دون دراسة عميقة لطبيعتها، إذ نظرت إليها عن طريق إنشاء كباري وطرق بشكل كثيف ومتراكم دون دراسة جدوى أو توضيح ماهية وطبيعة المشكلة التي هي بصدد العمل على حلها. ويظهر هذا بشكل واضح من خلال متابعة التقارير الإعلامية التي يبثها التلفزيون المصري والقنوات الخاصة التابعة للدولة على مدار السنوات الثماني السابقة.
في هذا المقال نورد أسباب الأزمة و نناقش بموضوعية الحلول التي عملت على تنفيذها الحكومة المصرية، وتحليل مردودها وآثارها على الواقع المصري.
أسباب الأزمة المرورية
في البداية، دشنت الحكومة مشاريع النقل التي قامت على تنفيذها الهيئة الهندسية للقوات المسلحة بالتعاون مع وزارة النقل.
رسم بياني رقم 1
وفقا لبيانات وزارة النقل: بلغ إجمالي الأطوال المنفذة ضمن المشروع القومي للطرق والكباري حتى نهاية 2022 نحو 5800 كم من إجمالي 7000 كم طرق جديدة مخطط إنشاؤها، بالإضافة إلى 7800 كم من إجمالي 10000 كم مخطط تطويرها وازدواجها أيضا مع شبكة الطرق الحالية.
كما بلغت عدد الكباري العلوية والأنفاق المنفذة بنهاية عام 2022، نحو 2415 كوبري/نفق، منها 915 كوبري/نفق نُفذت خلال الفترة 2014-2022.
لكن يبقى السؤال المرهون بتلك المنشآت، هل ساعدت تلك الطرق والكباري على حل الأزمات المرورية الخانقة التي ارتبطت بالقاهرة على مدار سنوات عديدة؟
في دراسة أعدتها مجموعة البنك الدولي عام 2014 حول زحمة السير في القاهرة، وهي آخر دراسة أُعدت بشكل علمي عن مشكلة السير والزحمة في القاهرة الكبرى، كانت تلك الأسباب تدور حول عاملين رئيسيين:
الأول:
هو امتلاك السيارات الخاصة بشكل كثيف في القاهرة، وما هو يعكسه الرسم البياني الذي عمل عليه البنك الدولي في إتمام تلك الدراسة، حيث إن 55% من المركبات التي تسير في شوارع القاهرة هي سيارات خاصة، بالإضافة إلى 24% أخرى تتمثل في سيارات التكاسي، بما يعني أن 80% من المركبات الخاصة التي تسير في شوارع القاهرة هى مركبات خاصة.
في المقابل فإن 2% فقط تمثلها حافلات النقل العام (الأوتوبيسات) بالإضافة إلى 14% من الحافلات الصغيرة (الميكروباص) التي عملت الدولة على تعزيزها منذ سبعينيات القرن الماضي لتعويض حالة النقص في وسائل النقل العامة.
يعتمد معظم سكان القاهرة والعاملون فيها على السيارات الخاصة أو سيارات الأجرة في قضاء مصالحهم، مما يعمل على تكدس مروري ضخم، خاصة أن تلك الوحدة تخدم شخص أو شخصين على الأغلب. في حين أن حافلات النقل العام التي تخدم عددا كبيرا من الناس من خلال مركبة واحدة هي أقل عددا من السيارات الأخرى، بالإضافة إلى أن عددا ليس بالقليل من المواطنين لا يُفضلون الاعتماد عليها إلا إذا اضطرتهم الحاجة إليها لأسباب تقنية تتعلق بها مثل الأعطال وعدم انتظام المواعيد وسرعتها البطيئة مقارنة بالسيارات الخاصة، فضلا عن حالتها الفنية السيئة والأعداد المتكدسة داخلها.
في ناحية أخرى فإن وسيلة نقل مهمة مثل مترو الأنفاق لا تخدم كل مناطق القاهرة الكبرى وتقع في حيز ضيق مقارنة بمساحة المدينة الضخم.
أما السبب الثاني:
التي تحدثت عنه تلك الدراسة هو سوء إدارة حركة المرور والذي هو سبب رئيسي في تفاقم أزمة السير في القاهرة الكبرى، والتي يتمثل في تعطل إشارات المرور وقلتها وغياب معابر المشاه ومنعطفات السيارات والطرق المتكسرة والإنشاءات المتتالية في الطرق الجديدة، فضلا عن عمليات التفتيش الأمني والحوادث وأعطال السيارات على الطرق الرئيسية والحيوية.
وهي أزمة حقيقية بالفعل، إذ تعاني معظم شوارع القاهرة من تلك الظواهر، حيث عمليات تنظيم المرور فيها تقليدية ولا تخضع لنظام معين، على سبيل المثال؛ يعاني كوبري المنيل الموصل إلى القصر العيني من مشكلة تكدس دائمة بسبب عدم انتظام المرور فيه، واعتماده على العنصر البشري دون تخطيط منتظم أو دراسة لحركة توافد السيارات من الجيزة إلى القاهرة عبر هذا الكوبري الصغير نسبيا.
لا يتوقف الأمر عند تلك النقطة تحديدا في القاهرة الكبرى بل يمتد ليشمل نقاطا كثيرة جدا تتمثل فيها تلك الظواهر، مثل جسر 6 أكتوبر، والطريق الدائري عند كارفور المعادي، وكوبري 15 مايو، وشارع الملك فيصل، والهرم، بالإضافة إلى شوارع حيوية مثل شارع رمسيس، وشارع جسر السويس، والتحرير، وبورسعيد.
لا تزال مشكلة التكدس المروري قائمة في القاهرة، وفي ظل غياب البيانات عن حالات المرور يصعب معرفة طبيعة المشاكل المرورية فيها بدقة، إلا أنه بالتجربة والمشاهدة اليومية على شوارع القاهرة الرئيسية ومحاورها، لا زالت تعاني القاهرة من تكدس مروري كبير جدا، وفي نفس تلك المراكز التي تناولتها الدراسة، بل زيد عليها بعض الشوارع الرئيسية الأخرى، مثل شارع التسعين الجنوبي بالتجمع الخامس.
لدرجة أن من الممكن تقسيم تكدس المرور إلى جزئين، الأول التكدس الطبيعي الذي اعتاد الناس عليه وهو تكدس يومي لم يختلف كثيرا عن بداية تنفيذ الحكومة لتلك المشاريع، ويظهر بشكل رئيسي في ساعات الصباح الأولى من اليوم وساعات الظهيرة حتى بعد غروب الشمس، ويتباين بين 7 مساء حتى 11 مساء، وهذا ما لا تتحدث عنه الصحف، لأنه صار أمرا طبيعيا.
أما التكدس غير العادي فهو يحدث في أوقات مختلفة من الشهر، وتسجله الصحف لأنه ظاهرة يجب أن يراعيها المواطنون، يمكن ملاحظة أنه في 2022 رصدت الصحف المصرية 17 حالة ازدحام مروري في آخر شهرين فقط من السنة، وكانت تلك الحالة تصل إلى الشلل الكامل في شوارع القاهرة، خاصة على كوبري أكتوبر ومحور 15 مايو وشارع الملك فيصل.
بناء على تلك التجارب، ما زالت مشكلة القاهرة في المرور مستمرة، ولم تصل تلك المشاريع التي قامت بها الدولة على مدار ثمان سنوات لأى نتيجة أو حل جذري أو حتى مؤقت.
لا تتحدث الحكومة عن دراسة حقيقية لطبيعة حركة المرور في القاهرة، فقط مجموعة من الكباري والطرق التي أنشئت بداخلها، والتي يظهر من خلال مواقعها، أنها موجودة فقط لخدمة العاصمة الإدارية الجديدة وليست لحل مشكلة التكدس والمرور داخل القاهرة الكبرى القديمة مقارنة بالقاهرة الجديدة أو العاصمة الجديدة شرق القاهرة.
ما الذي جعل الحكومة تفشل؟
يذكر الباحث عمرو عصام في ورقته البحثية عن النقل والتنقل أن الأولوية يجب أن تمنح في استخدام الشوارع للمشاة ثم لمستخدمي الدراجات الهوائية ثم لمستخدمي حافلات النقل العام على اختلاف أنواعها، وأخيرا مستخدمي السيارات الخاصة من خلال تخطيط وتصميم متوازن يضمن العدالة والفاعلية في آن واحد.
من المهم بداية دعم المشاة من خلال خلق مساحات خضراء ومناسبة تشجع على عملية المشي داخل الطرق في القاهرة، بالإضافة إلى دعم مستخدمي الدراجات الهوائية عن طريق تخصيص طرق آمنة ومناسبة وفعالة لهم.
ثم يأتي الحل الجذري الذي تحدثت عنه دراسة البنك الدولي لمشكلة التكدس في القاهرة وهو دعم وتطوير قطاع حافلات النقل العام وتحديد مؤسسة واحدة لإدارته والعمل على تطوير بنيته، من خلال تطوير الطرق لخدمتها وصنع محطات تطوير الصناعة ذاتها في دعم وسائل النقل العامة وجعلها مناسبة أكثر لأكبر عدد من الناس في شوارع القاهرة، بالإضافة إلى تطوير عملية خطوط مترو الأنفاق والترام لتشمل مناطق أكثر بفعالية أكبر.
ستجعل تلك المعالجات استخدام الناس لوسائل التنقل الجماعي أكثر وبالتالي تخفيف استخدام السيارات الخاصة، لا تنتبه الحكومة لتلك العملية وتتغاضى تماما عن دعم مشاريع النقل الجماعي، وبالتالي فإن المشكلة تتفاقم أكثر مع الوقت خاصة مع توقف دعم وتطوير قطاع النقل الجماعي في القاهرة الكبرى، حيث لم تعلن الدولة عن أي مشروع تطوير لتلك الصناعة الهامة والحيوية، بالإضافة إلى أن كل الطرق التي نُفذت بشكل جديد لم تراع حق المواطنين ولا النقل العام في السير، فلم تنشأ محطات انتظار حيوية لا في مواقعها ولا كذلك على الطرق.
يواجه المواطن في تلك الوسيلة إشكالية أخرى، وهي أن وسائل النقل العامة لا تغطي مناطق في القاهرة، ويجب عليه للوصول إلى هدفه أن يستخدم وسيلتين أو أكثر من المواصلات مما يشكل صعوبة بالغة على المواطنين خاصة كبار السن والسيدات.
تعزز الحكومة تلك المشكلة ولا تعمل على حلها من خلال ما تم تنفيذه من شبكة طرق في السنوات الماضية، لقد عملت الدولة على تجريف المساحات الخضراء التي كانت تزين الشوارع وتصنع فيها مساحة تنفس للمارة، مثلما حدث في شوارع مصر الجديدة ومدينة نصر، وجعل تلك الطرق تخدم أكثر أصحاب السيارات الخاصة والأجرة، بالإضافة إلى أنها ألغت الترام من الأساس في شوارع مصر الجديدة ولم تستبدله بترام آخر أو عملت على تحسينه، بل رصفت الشوارع لتعزيز عملية السير بالعربات الخاصة.
خاتمة
لا تتحدث الدولة عن مشاريعها بدقة أو بأرقام واضحة، وتلك كارثة حقيقية، تسببت في ضياع مليارات الجنيهات في مشاريع تُعد قومية، وتتسبب في كوارث اقتصادية تعاني منها مصر الآن، وفي النهاية لا تعالج مشاكل حقيقية.
يعاني هذا المشروع من مشكلة بنيوية عميقة وهي غياب الدراسات عن الطرق والشوارع المصرية، لذلك لم تحل الحكومة المشكلة عبر كل تلك الطرق التي أنشأتها بل تفاقمت أكثر، وكما هو متوقع ستزداد بصورة أكبر في خلال السنوات القادمة، وهو ما يتنافى تماما مع ما تعرضه الدولة بشكل دائم عن ضرورة مشاريع الطرق والكباري.