في مارس الماضي، نشر الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء تقريرًا جديدًا يتناول رصد وتحليل آخر النتائج الخاصة بالدراسات العليا في مصر. ومنذ وقت نشر التقرير، نشأ جدل ونقاشٌ عام بخصوص الانخفاض الحادّ الموثّق في متن التقرير.
ففي عيّنة عام 2021، التي تناولها التقرير، ظهر أنَّ أعداد الحاصلين على الدكتوراه، على امتداد التخصصات النظرية والعلميَّة، بلغ فقط 9063 باحثا، بانخفاض 93% عن عام 2016 الذي تجاوز فيه الحاصلون على درجة الدكتوراه 128 ألف طالب.. فكيف حدث ذلك؟
مصروفات بلا جدوى
في معرض تحليله للنتائج الصادمة عن هذا التقرير، قال الدكتور كمال مغيث، الخبير التربوي، إنَّ الأمر لا يتوقف فقط عند الارتفاع الكبير في الرسوم المدفوعة للمضيِّ قدماً في هذا المسار؛ وإنما يتجاوز ذلك إلى أنَّ تلك الرسوم والوقت والمجهود المبذول قد يتحولوا إلى سراب، في ظل عدم الاهتمام الحكومي، ماديًا ومعنويًا، بالحاصلين على درجات الدراسات العليا من ماجيستير ودكتوراه.
“قبل سنوات، كان الحصول على درجة الدكتوراة يضيف الكثير لصاحبه، ولكنَّ الأمر اختلف تمامًا، فلم يعد هناك تميُّز بجانب العبء المادي وقلة فرص العمل، فأصبح الأفضل البحث عن فرصة عمل سريعة بدلاً من تضييع سنوات في الحصول على درجة علميَّة دون جدوى حقيقية ملموسة، ودون أن تتحول إلى مجرَّد شهادة تعلق على الجدار”.
في نفس السياق، وتعليقًا على نتائج التقرير ، يشير الباحث محمد جمال علي، إلى أنَّ هناك ما يمكن وصفه بحالة من “الانفلات” في تحديد رسوم برامج الدراسات العليا في الوسط الأكاديمي المصري؛ إذ تتعدد البنود، وترتفع تكلفة كل بند على حدة، كما يجري اختراع بنود من خارج اللوائح الرسميَّة، هي أقرب في حقيقة الأمر إلى العرف غير المشروع، منها إلى الضرورات الأكاديمية.
وبحسب ما وثقه علي بناء على مقابلات ميدانية، فإنَّ مسار الماجيستير في أحد التخصصات النظرية صار يتكلف – في المتوسط – حوالي 40 ألف جنيه، من رسوم دراسية، ورسوم تسجيل للرسالة، ورسوم الدخول إلى المجلات العلمية الدولية للحصول على المراجع، ورسوم نشر أجزاء من الرسالة في المجلات الأكاديمية الداخلية المحكَّمة، وصولاً إلى رسوم التسجيل في المناقشة.
ومع زيادة الرسوم في التخصصات العلميَّة نظرًا لتفاصيل فنيَّة تتعلق بالممارسة والأداء والتطبيق، فإنَّ لجان المناقشة عادةً ما تجبر الطالب على تحمل مصروفات إضافيَّة، خارج اللوائح الرسميَّة، تخص مراسم يوم المناقشة، من طعام وضيافة وحجز القاعة، وأحيانًا تصل إلى مصروفات الانتقالات والإقامة الفندقية، حال سفر اللجنة، كما ذكر علي في مقاله.
فرص ضائعة
ليس الطلاب المصريُّون فقط هم المتضررون من السياسات الجديدة في مجال الدراسات العليا، ولكنَّ الطلاب الوافدين أيضاً بدأوا، بدورهم، يتذمرون من تلك الارتفاعات المبالغة في الرسوم، إذ يحتاج الطالبُ العربي إلى نحو 5 آلاف دولار للمضي في برنامج الدكتوراه بإحدى الجامعات الإقليمية المصريَّة وفق تقارير صحافيَّة محليَّة تعتمد على مقابلات ميدانيَّة، وهو ما يضطرّ هؤلاء الطلاب إلى البحث عن فرص أفضل في البلاد المجاورة مثل لبنان وتركيا وماليزيا والهند وإيران.
وعليه، تكون في النهاية الخسارة الأكبر للحالة المصريَّة برمَّتها، فخلافًا للبلدان المجاورة التي تمتلك موارد طبيعيَّة كبيرة، فإنَّ قوة مصر الحقيقية في العنصر البشري، فإذا فرَّطت في هذا العنصر، تكون الخسارة من كلّ الجوانب، لذلك، فإنَّ تقرير المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، وهو جهة رسمية محايدة غير مدفوعة بأي دوافع قد يُشكَك فيها، ينبغي أن ينظر له بعين الأهمية وألا يمر مرور الكرام.
شاركنا رأيك: هل يستحق مسار الدراسات العليا في مصر تلك الرسوم والجهود المبذولة من أجله؟