لم يكن البحر أوسع من أحلامهم، ولا أقسى من واقعهم، إذ ودع 27 شاباً مصرياً بيوتهم وهم يراهنون على المجهول، بحثاً عن فرصة حياة تقيهم الفقر وتمنحهم كرامة مفقودة، لكن البحر كان أسرع من أحلامهم، فابتلعهم قبالة السواحل اليونانية، تاركاً خلفه أمهات ثكالى، وأسراً معلّقة بين الحزن والانتظار، ومأساة جديدة تُضاف إلى سجل الهروب من وطن ضاق بأبنائه.
وانكسر ذلك الحلم فجر السابع من ديسمبر الجاري. فقد انطلق مركب للهجرة غير النظامية يحمل عشرات المهاجرين من جنسيات مختلفة، بينهم مصريون، قبل أن يتعطّل بعد أيام من التيه في عرض البحر، وتنتهي الرحلة بالغرق قبالة جزيرة كريت.
الإعلان الرسمي بعد أيام من الانتظار
وبعد تسعة أيام من الواقعة، أعلنت وزارة الخارجية المصرية وسفارة مصر في أثينا عن التعرف على هوية 14 شاباً مصرياً لقوا حتفهم في الحادث، تاركين خلفهم أسراً فقيرة تعيش صدمة الفقد والانتظار.
وقالت السفارة المصرية في بيان، الثلاثاء، إنها تمكنت، بالتعاون مع السلطات اليونانية، من تحديد هويات الضحايا، مشيرة إلى أنها ستواصل إبلاغ ذويهم بمواعيد وصول الجثامين إلى أرض الوطن.
في المقابل، أصدرت وزارة الخارجية المصرية بياناً نفت فيه أن يكون المركب قد انطلق من السواحل المصرية، مؤكدة أنه منذ عام 2016 لم تخرج مراكب هجرة غير نظامية من مصر.
وأوضحت الوزارة أن القارب أبحر من إحدى الدول المجاورة في السابع من ديسمبر 2025، وكان على متنه 34 مهاجراً غير نظامي من جنسيات مختلفة، من بينهم 14 مصرياً لقوا مصرعهم.
وناشدت الوزارة المواطنين عدم الانسياق وراء عصابات الهجرة غير الشرعية، حفاظًا على أرواحهم.
أرقام متضاربة وغموض حول المفقودين
وفي تصريحات لاحقة، قال سفير مصر لدى اليونان، عمر عامر، إن الحادث أسفر عن وفاة وفقدان 27 مصرياً، بينهم أطفال، موضحاً أنه جرى التعرّف على 14 جثماناً، بينما لا يزال 13 آخرون في عداد المفقودين.
ولم توضّح وزارة الخارجية المصرية، حتى الثلاثاء، مصير هؤلاء المفقودين، ما زاد من حالة القلق والغضب بين أسر الضحايا، التي تعيش بين الأمل واليأس في انتظار أي معلومة عن أبنائها.
أسماء الضحايا
وبحسب ما أعلنته السفارة المصرية في أثينا، فإن الضحايا هم:
- يوسف محمد عبد الغني أحمد السعدني – منيا القمح – الشرقية
- محمد شحاتة عبد العزيز – كفر عبد الله – منيا القمح – الشرقية
- عبد الله محمد عامر عامر خاس – تلبانة – منيا القمح – الشرقية
- محمد رضا علي عبد الهادي – الشرقية
- مينا هاني جاد حبيب – بني مزار – المنيا
- مايكل حنا فايز شلبي مطاي – المنيا
- سعيد أحمد محمد سعيد – الشرقية
- هيثم أحمد أحمد سيد أحمد العربي – الشرقية
- سعيد محمود محمد أحمد عطية – الشرقية
- محمد سعيد محمد يوسف – الشرقية
- أحمد عبد المنعم محمد محمد – بولاق الدكرور – الجيزة
- جورج جرجس ناجح حنا عبد الله – بني مزار – المنيا
- محمد شحاتة محمد رمضان محجوب – منيا القمح – الشرقية
- يوسف محمد شحاتة متولي – منيا القمح – الشرقية
حزن وغضب على مواقع التواصل
أثار تداول أسماء الضحايا موجة حزن وغضب على منصات التواصل الاجتماعي، حيث حمل كثيرون الحكومة مسؤولية تفاقم أوضاع الشباب. وكتب عمر الصباري: “شباب زي الورد.. لو كانوا لاقوا خير في بلدهم ما كانوش رموا نفسهم للهلاك”.
وقالت شمس في تعليقها:”كل يوم الشباب بيضيع، ومش بنقعد نسمع مشاكلهم علشان نمنع الكارثة”. وتساءلت سما بمرارة:”فين اللي بيكلمونا عن الإنجازات؟”.
فيما كتبت نيرمين نبيل:”البلد اللي مش موفرة فرص عمل للشباب هي السبب.. والشباب بيدفعوا الثمن”. وأكد صبري ميشيل أن الضحايا:”لم يهاجروا حباً في المغامرة، بل لأن الحياة في مصر صارت مأساوية، مع غياب العدالة وانعدام الثقة في الحاضر والمستقبل”.
وسط الغضب، برزت صرخات أسر لا تزال تبحث عن أبنائها. كتب أبو يوسف رسالة مؤلمة قال فيها: “إيهاب وجيه زكي شفيق، 27 سنة، من بني مزار.. مفيش أي معلومات عن الجثمان لحد دلوقت”.
وردّت عليه سونيا يوسف: “يا وجع القلب.. ربنا يرحمهم شهداء لقمة العيش”.
تفاصيل الرحلة الأخيرة
وتداول مستخدمون رسالة كشفت تفاصيل قاسية عن الحادث. جاء فيها أن المركب لم يغرق فوراً، بل تعطّل محرّكه في اليوم الثاني، وظلّ تائهاً خمسة أيام كاملة في البحر، دون طعام أو ماء أو تدفئة، وسط برد ديسمبر القارس.
وأضافت الرسالة أن مركباً تركياً رصد القارب على بعد 28 ميلاً بحرياً من سواحل كريت، وأبلغ السلطات اليونانية، التي عثرت على مشهد وصفه كاتب الرسالة بـ: “مقبرة عائمة”.
شبكات الهجرة.. منظومة موت عابرة للحدود
ولا تقف مأساة الهجرة غير النظامية عند حدود البحر فقط، بل تمتد إلى منظومة معقّدة من الفشل القانوني والاقتصادي والأمني.
ففي العام الماضي، أسقطت محكمة يونانية التهم الموجّهة إلى تسعة مصريين كانوا متهمين بالتسبب في غرق مئات المهاجرين على متن قارب صيد، في حادثة خلّفت صدمة واسعة على مستوى سياسات حماية الحدود واللجوء في الاتحاد الأوروبي.
وأرجعت المحكمة قرارها إلى عدم اختصاصها، باعتبار أن القارب غرق في مياه دولية. وكان قد جرى القبض على المتهمين، الذين تراوحت أعمارهم بين 21 و41 عامًا، بعد ساعات من غرق القارب، واحتُجزوا تمهيدًا لمحاكمتهم بتهم تتعلق بالتهريب، والتسبب في غرق قارب، والانتماء إلى منظمة إجرامية، قبل أن يُطلق سراحهم لاحقًا.
ويرى كثير من الشبان المصريين، الذين يعانون من الفقر والبطالة وارتفاع تكاليف المعيشة، في الهجرة غير النظامية انطلاقًا من السواحل الليبية بارقة أمل في غد أفضل.
وتُنظَّم هذه الرحلات عبر شبكات منظمة تقوم على شراكات بين سماسرة ينشطون في قرى مصرية معروفة بـ“تصدير المهاجرين” في محافظات البحيرة والقليوبية وكفر الشيخ والفيوم، وبين قادة مجموعات مسلحة وعصابات ليبية.
وتصل كلفة الهجرة غير النظامية إلى نحو 300 ألف جنيه مصري، يتقاسمها السماسرة الذين يتولّون نقل الشبان الراغبين في الهجرة من مصر إلى ليبيا ثم أوروبا، عبر طرق معروفة تنتهي في مدينة السلوم على الحدود الغربية، ومنها إلى داخل الأراضي الليبية، حيث يُجبر المهاجرون على البقاء أيامًا في ظروف قاسية قبل نقلهم على قوارب متهالكة تتجه نحو السواحل الأوروبية.
مصر في قائمة الهروب
وتُعدّ اليونان إحدى أبرز بوابات العبور إلى أوروبا. وتشير بيانات أوروبية إلى أن 75% من المهاجرين غير النظاميين دخلوا أوروبا عبر اليونان عام 2015، قبل أن تتراجع الأعداد مع تشديد الإجراءات الحدودية خلال السنوات الأخيرة.
وخلال الفترة من 2014 إلى 2023، فقد أكثر من 63 ألف مهاجر حياتهم حول العالم، منهم 27 ألفًا في البحر المتوسط.
وفي عام 2022، احتلت مصر المرتبة الأولى من حيث عدد المهاجرين غير النظاميين إلى أوروبا بنحو 21.7 ألف شخص، بينما تشير تقارير عام 2024 إلى حلولها في المرتبة الثانية عالميًا، مع تحوّل مسارات الهجرة عبر ليبيا.
وبين واقع اقتصادي ضاغط، وتحذيرات رسمية تكتفي بالمناشدة، وغياب سياسات واضحة توفّر بدائل حقيقية للشباب، يبقى البحر شاهداً على مأساة تتكرر، فيما يتجدد البكاء مع كل حادث، وكأن “وجع القلب” قدر مكتوب على الأسر لا ينتهي.