فوجئ وكيل وزارة التموين بمحافظة دمياط خلال جولة تفقدية بأحد المخابز، بأن أجولة الدقيق المدعَّم تبدو مكتملة وسليمة من الخارج، لكن الفحص كشف أنها مملوءة بنشارة الخشب بدلاً من الدقيق.
وقد وثَّقت هذه الواقعة مقطع فيديو تم تداوله على منصات التواصل الاجتماعي، وعلّقت مديرية التموين بدمياط بأنه جرى ضبط مخبز قام بالتصرف في 40 شيكارة دقيق، وملأ الأجولة الفارغة بنشارة الخشب حتى يكتمل عدد الحصة الاستراتيجية، مُوهمًا من يتفقد المخبز بأن حصة الدقيق التي استلمها مضبوطة.
ولم تكن هذه الواقعة حالة فردية، فقد ضبطت مفتشة تموين بمديرية التموين في المنوفية صاحب مخبز يملأ أجولة الدقيق بالتراب، فيما اكتشفت مديرية التموين ببني سويف قيام صاحب مخبز بلدي بملء أجولة الدقيق الفارغة بـ”تراب وحجارة ومخلفات” بدلًا من الدقيق المدعَّم المخصص للمخبز، بهدف بيعه في السوق السوداء، بينما يحصل المواطن على رغيف ناقص الوزن وضعيف الجودة.
معاناة المواطنين
انعكست هذه الممارسات على المواطن البسيط بشكل مباشر، خاصة في الدقهلية، حيث أشار محامٍ يُدعى عصام حبيشي إلى أن المخابز في المطرية تقوم بسرقة الدقيق في صورة عجين أو شكائر دقيق خام، ما يؤدي إلى أن يصل وزن الرغيف إلى نحو 50 جراماً بدلاً من الوزن الرسمي المقرر 90 جراماً.
وتقدم أهالي قرية طوخ الأقلام بمركز السنبلاوين بشكوى جماعية للمحافظ، مطالبين بالتحقيق في سوء جودة الرغيف وعدم التزام بعض المخابز بالضوابط المقررة، إضافة إلى بيع الدقيق المدعم في السوق السوداء، ما يؤدي إلى نقص حقيقي في الكميات المتاحة للمواطنين.
لم تقتصر الشكاوى على الدقهلية فقط، فالمواطن محمد توني في محافظة أسيوط طالب المسؤولين بزيادة التفتيش الدوري على المخابز لضمان العدالة وجودة الرغيف، وفتحت محافظة الوادي الجديد تحقيقاً عاجلاً في عثور مواطنة على عقرب داخل رغيف مدعم.
بيانات تكشف حجم المشكلة
وتظهر بيانات منظومة الشكاوى الحكومية الموحدة حجم المشكلة بشكل واضح، حيث استقبلت وزارة التموين والتجارة الداخلية خلال شهر أغسطس 2025 نحو 3583 شكوى، وبلغ العدد في سبتمبر 3865 شكوى، بينما سجل أكتوبر أكثر من 4232 شكوى، أغلبها تتعلق بتلاعب بعض المخابز في وزن الرغيف ومستوى جودته.
وفي المقابل، يوضح أصحاب بعض المخابز، مثل رضا غنيم، أن سوء جودة الدقيق المقدم من المطاحن التموينية يزيد صعوبة إنتاج رغيف متوافق مع الوزن الرسمي، مشيراً إلى أن الدقيق يصلح للدهان وليس للخبز، ومطالباً شعبة المخابز بالدفاع عن حقوقهم أمام المطاحن بدل تحميلهم مسؤولية نقص الوزن فقط.
على المستوى الحكومي، يتم توريد الدقيق المدعم للمخابز وفق آلية محددة، حيث تبلغ قيمة طن الدقيق التمويني لمخابز الخبز المدعم نحو 17 ألفاً و250 جنيهاً، ويتم سدادها مباشرة للمطحن، وتمتلك مصر نحو ثلاثين ألف مخبز تنتج أكثر من 250 مليون رغيف يومياً.
حجم فاتورة الدعم
تُقدّر فاتورة دعم الخبز في موازنة 2025/2026 بنحو 94 مليار جنيه بحسب تصريح للدكتور شريف فاروق، وزير التموين والتجارة الداخلية، مقارنة بـ 98 مليار جنيه في موازنة 2024/2025، وحوالي 90 مليار جنيه في موازنة 2022/2023، وحوالي 87.2 مليار جنيه في موازنة 2021/2022 وفقًا للإحصاءات الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء.
وأكد الرئيس عبد الفتاح السيسي أن فاتورة الدعم الإجمالية تشمل الوقود والخبز والكهرباء وغيرها، وتصل إلى نحو 600 مليار جنيه، مما يعكس حجم الدعم الحكومي المخصص لحماية المواطنين من ارتفاع الأسعار.
الاعتراف بالتلاعب
واعترفت الحكومة ممثلة في وزارة التموين، على لسان مساعد الوزير حسام الجراحي، بأن لجان التفتيش التابعة للوزارة لاحظت تلاعباً واضحاً في وزن وسعر رغيف الخبز المدعّم، حيث استغل بعض التجار حاجة المواطنين، وقاموا إما برفع سعر الرغيف ليصل إلى 40 قرشا بدلاً من السعر المحدد من الوزارة بـ 20 قرشاً، أو تخفيض وزنه إلى نحو 30 جراماً فقط، في مخالفة صريحة للضوابط المعلنة.
وأشار مساعد الوزير إلى أنه تم تحرير محاضر فورية ضد المخابز المخالفة، خاصة تلك التي باعت الخبز المدعم بالسعر الحر أو خفضت عدد ساعات التشغيل المقررة، وتخصيص لجان لاستقبال التظلمات من أصحاب المخابز بما يضمن الشفافية.
عقوبة المتلاعبين بدقيق الغلابة
وضعت القوانين المصرية عقوبات صارمة للتلاعب بالدقيق المدعم، وتتمثل العقوبة في حالة نقص وزن رغيف الخبز بمقدار 10 إلى 20 جراماً بغرامة من 500 إلى 1000 جنيه، وفي حالة نقص وزن الرغيف من 20 إلى 30 جراماً تكون الغرامة من ألف إلى 2000 جنيه، وتتضاعف العقوبة في حالة نقص وزن الرغيف 30 جرامًا فأكثر، ليتم إيقاف المخبز عن العمل لمدة شهر، وقد تمتد إلى ثلاثة أشهر مع إنذار بالغلق النهائي.
وتنص المادة 8 من قانون حماية المستهلك رقم 181 لسنة 2018 على أنه: “يحظر حبس المنتجات الاستراتيجية المعدة للبيع عن التداول وذلك عن طريق إخفائها أو عدم طرحها للبيع أو الامتناع عن بيعها أو بأية صورة أخرى، ويلتزم حائزها لغير الاستعمال الشخصي بإخطار الجهة المختصة بالسلع المخزنة لديه وكمياتها”.
كما نصت المادة 71 من قانون حماية المستهلك على أنه: “يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنة وغرامة لا تقل عن مائة ألف جنيه ولا تجاوز مليوني جنيه أو ما يعادل قيمة البضاعة موضوع الجريمة أيهما أكبر، كل من يخالف المادة 8 من هذا القانون”.
تدخل النواب والتوصيات
إزاء تكرار الشكاوى وعدم القدرة على ضبط المخالفات، طالب النواب بتشديد الرقابة على المخابز، حيث شدد النائب خالد طنطاوي على ضرورة تطبيق عقوبات فورية تصل إلى إغلاق المخابز المخالفة وسحب تراخيصها في حال تكرار المخالفة، مع توسيع نطاق الرقابة الرقمية وربط جميع المخابز بمنظومة ذكية لمتابعة الإنتاج لحظة بلحظة، وإعادة تقييم حصص الدقيق لكل مخبز.
واقترح إعلان قائمة سوداء بالمخابز المخالفة أمام الرأي العام لردع الآخرين، وتحفيز المخابز الملتزمة بمنحها أولوية في التوريد والدعم والمزايا الإدارية، وتحديث معايير الوزن والمواصفات بما يواكب الأسعار العالمية ويضمن العدالة للمستهلك والمخابز.
وأوصت لجنة التضامن والأسرة بمجلس النواب بأهمية تطوير منظومة إنتاج وتوزيع الخبز المدعم، من خلال تحديث المخابز وتحسين جودة الدقيق، وإحكام الرقابة على منظومة الدعم لمنع التسرب وتحقيق العدالة الاجتماعية، في ضوء الموازنة العامة للدولة للعام المالي 2025/2026.
من جهته طالب المستشار القانوني محمود البدوي بتغليظ عقوبة تعدي أصحاب المخابز على الدقيق المدعم بما يمنح السوق المصري مزيداً من الانضباط ويغلق الباب أمام الفاسدين.
تؤكد تعدد الشكاوى واتساعها أن الرقابة الحالية لم تعد قادرة على منع التلاعب أو حماية الدعم من التسرب، وحين يفلت المخالفون من العقاب، يتحول الخلل من تجاوز فردي إلى خلل ممنهج يدفع ثمنه المواطن أولًا.