بينما تتكدس المحاصيل في الحقول وتُباع بأسعار لا تغطي تكلفة حصادها، يعيش المزارعون واحداً من أصعب المواسم الزراعية في ظل غياب سياسة زراعية واضحة لتنظيم الإنتاج وتحديد احتياجات السوق، الأمر الذي يترك الفلاحين في مواجهة الخسارة عاماً بعد عام دون أي مظلة حماية حقيقية.
فراولة متكدسة
بدأت الأزمة هذا الموسم مع الانهيار الكبير في أسعار الفراولة، حيث سجلت الأسواق المحلية تراجعاً غير مسبوق جعل المحصول يتكدّس دون قدرة على تصريفه أو تصديره.
وأوضح محمد عبدالعظيم، مدير تصدير في محافظة الشرقية، أن بعض شحنات الفراولة رفضت من قبل دول الاتحاد الأوروبي؛ بسبب تجاوز نسبة مبيد “إم أر إل”، وعدم الالتزام بفترة الـPHI المطلوبة لقطف الثمار بعد رشها بالمبيدات.
كما تضمنت أسباب الرفض زيادة الإصابات الحشرية والمرضية، وسوء الفرز والتعبئة وخلط الأحجام، وتأخر التحميل والتبريد، والتهوية غير الكافية. ومع ذلك، لم تتلق وزارة الزراعة أو وزارة التجارة أي إخطار رسمي من أي دولة برفض الشحنات.
إلى جانب هذه المشكلات التصديرية، ساهمت زيادة المساحات المنزرعة بالفراولة، والتي وصلت هذا العام إلى 100 ألف فدان بزيادة 30% عن العام الماضي، في زيادة الإنتاجية عن احتياجات الطلب المحلي والتصديري، فاضطر المزارعون لبيع المحصول بأسعار زهيدة، أحياناً أقل من تكلفة الحصاد.
ووصف علاء عمار، مزارع وتاجر، ما يحدث في سوق الفراولة بأنه “لا يرضي الله”، موضحاً أن التجار عاجزون عن العمل والمزارعون متوقفون عن البيع بسبب غياب الأسعار المستقرة والمواصفات المطلوبة.
وتداولت حسابات على منصات التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو لرمي افلاحين محصول الفراولة في الترع بسبب عجزهم عن بيعه.
وطالب الحاج “سعيد”، أحد المزارعين، بعدم الاستعجال في قطف المحصول وبيعه بأسعار زهيدة، مؤكداً ضرورة الانتظار لحين نضج المحصول لضمان عدم الخسارة.
تراجع الطماطم
لم تكن الطماطم أفضل حالاً، بل ربما كانت الخسارة الأكبر والأكثر تداولاً على لسان المزارعين.
ففي محافظة المنيا، اضطر الحاج أبو إسماعيل إلى بيع كيلو الطماطم بجنيه واحد فقط، بينما قيمته الحقيقية تصل إلى سبعة جنيهات، تاركاً جزءاً كبيراً من المحصول على عروشه دون جمعه، لأن تكلفة الحصاد تجاوزت سعر البيع، لتصل خسائره هذا الموسم إلى نحو 200 ألف جنيه في فدانين فقط.
وقال الرجل السبعيني بحسرة: “هأكل ولادي منين وهسدد ديون البنك والتجار إزاي؟”.
ومن دمياط، يروي المزارع عبد الهادي محمود تفاصيل موسم اعتبره الأسوأ في حياته. فقد استدان لشراء مستلزمات الإنتاج على أمل تغطية الديون وتحقيق ربح، إلا أن أسعار الطماطم هذا العام كانت صادمة إلى حد جعل تكلفة جمع المحصول أعلى من قيمته السوقية.
وتوثّق مقاطع فيديو متداولة مشاهد لمزارعين يفرغون الطماطم من فوق العربات على الأرض، بينما يصرخ أحدهم: “ده خراب بيوت يا عم”.
أزمة البصل والبطاطس
هرباً من ديون الطماطم، لجأ فلاحون كثيرون إلى زراعة البصل، إلا أنهم اصطدموا بسيناريو مشابه. يقول عمر سمير، أحد المزارعين، إن قيراط البصل يُباع بـ500 جنيه فقط، ما جعله مطالباً بسداد ديون “الطماطم والبصل” معاً، مهدداً بالحبس في حال العجز.
وتكررت الأزمة مع البطاطس، إذ ساهم غياب السياسة الزراعية في تدمير سعر المحصول، ففي مقطع مرئي يظهر أحد المواطنين محتضناً أجولة البطاطس فوق سيارة نصف نقل قائلاً: “سعر البيضة أغلى من كيلو البطاطس”. ويقول بائع آخر: “شيكارة البطاطس 40 كيلو بـ60 جنيه… يعني الكيلو بـ1.5 جنيه”.
وفي المنيا، ظهر مزارع آخر ليؤكد حجم الكارثة: “إحنا شغلتنا زراعة البطاطس… اللي معاه عيل عايز يجوزه بنقوله استنى لما نخلع البطاطسات… طب المحصول اضرب نعمل إيه؟ دلوقتي المحصول ماسددش الديون اللي عليه”.
وأشار المزارع كمال أحمد من قرية أبو غالب إلى أن الفلاح يعمل منفرداً دون أي توجيه، مؤكدًا أن غياب دراسة السوق وإلغاء الدورات الزراعية يجعل المزارع يخوض مخاطرة كبيرة في كل موسم. ويقول:”مرة يزرع محصول سعره يعلى… ومواسم أخرى ينخفض سعره فجأة”.
بيانات المساحات والإنتاج
تُظهر البيانات الرسمية حجم الإنتاج الكبير للمحاصيل، إذ بلغت مساحة الطماطم 414 ألف فدان، بينما بلغت مساحة البطاطس 711 ألف فدان وفق إحصاءات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء لعام 2023/2024. وذكرت الدكتورة هند عبد اللاه، مديرة المعمل المركزي لمتبقيات المبيدات، أن مساحة الطماطم لعام 2025 تجاوزت 367 ألف فدان بإنتاج يفوق 6.7 مليون طن.
وكشف تقرير وزارة الزراعة في 29 نوفمبر 2025 عن تصدير 8.5 مليون طن من الحاصلات الزراعية، أبرزها الموالح والبطاطس والبطاطا والفاصوليا والعنب والرمان والمانجو والطماطم والثوم والفراولة والجوافة، ويسهم القطاع الزراعي بنحو 12% من الناتج المحلي الإجمالي، ويدعم الميزان التجاري بـ5 مليارات دولار، ويوفر فرص عمل لنحو 6 ملايين عامل.
أسباب الخسائر
من جانبه، أوضح الخبير الزراعي محمد الجوهري أن أسعار المحاصيل شهدت هذا العام موجة انخفاض حادة طالت البطاطس والطماطم والبصل والثوم والعنب والفراولة، داعياً المزارعين إلى إعادة النظر في حسابات الإنتاج وتقليل التكاليف.
وتسبب غياب سياسة زراعية محددة في إغراق السوق بتقاوي البطاطس المستوردة وزيادة إنتاج المحصول إلى 3 ملايين طن نتيجة زراعة المحصول في مساحات واسعة، بحسب المهندس أحمد الشربيني، رئيس الجمعية العامة لمنتجي البطاطس.
وأوضح حسين عبد الرحمن أبو صدام، نقيب الفلاحين، أن المزارع يبيع كيلو الطماطم من الأرض بـ2 جنيه فقط، ويصل إنتاج الفدان إلى 800 قفص وزن 25 كيلوجرامًا بما يعادل نحو 40 ألف جنيه، بينما تصل تكلفة زراعة وجمع الفدان إلى 140 ألف جنيه، أي أن العائد لا يغطي 30% من التكلفة.
وكشف المهندس أحمد مناع، استشاري زراعي، أن ارتفاع تكلفة نقل محصول الطماطم لمصانع الصلصة يمثل جانبًا آخر من الأزمة، مشيرًا إلى أن تراجع أسعار البطاطس يرجع للتوسع في المساحات وارتفاع تكلفة مستلزمات الإنتاج، حيث وصل إيجار الفدان في بعض المناطق إلى 60 ألف جنيه، ما أدى لوفرة المعروض وتراجع الأسعار.
وقال صفوت حماد، عضو الجمعية المركزية بالجيزة، إن تسويق أي محصول يخضع للعرض والطلب، بينما يرى فتحي وجيه ناصف من منتجي الخضر والفاكهة أن المزارع مظلوم لأن المكسب يذهب للتاجر، مطالبًا بسعر ضمان ثابت يضمن هامش ربح للفلاح.
رد الحكومة والمساءلة البرلمانية
من جهته، قال علاء فاروق، وزير الزراعة، إن خسائر الطماطم جاءت نتيجة تخلف بعض الشركات المتعاقدة مع المزارعين عن استلام المحصول، مؤكداً أن هذه الفترة معروفة بالتحديات المرتبطة بجمع المحاصيل.
وتقدم شمس الدين، عضو مجلس النواب، بسؤال إلى المستشار الدكتور حنفي جبالي، رئيس مجلس النواب، حول ضعف منظومة تسويق المحاصيل الزراعية وغياب آلية التسعير العادل للفلاحين، وطالب النائب الحكومة بوضع تسعيرة استرشادية مُلزمة للمحاصيل الرئيسية تُعلن قبل بداية الموسم الزراعي.
غياب السياسة الزراعية
يعود السبب الأساسي للخسائر التي يتعرض لها المزارعون سنوياً، بحسب خبراء وبرلمانيين، إلى غياب سياسة زراعية محددة، مطالبين بعودة الدورة الزراعية.
وقال المهندس محمود هيبة، وكيل لجنة الزراعة والري بمجلس النواب سابقاً والخبير الزراعي، على ضرورة وضع سياسة زراعية محددة تدرس أوضاع السوق والاحتياجات المحلية، وتفتح باب التصدير من عدمه، وتوجيه الكميات الزائدة عن الاستهلاك إلى المصانع الغذائية، وهو ما يساهم بشكل كبير في تحقيق هامش ربح للفلاح، لافتًا إلى أن تغير السياسات الزراعية دون ضوابط بات الفلاح يتعرض للخسارة في كثير من الأحيان.
في السياق طالب نقيب الفلاحين، بضرورة إعادة الدورة الزراعية وإعادة النظر في الخريطة الزراعية لمصر، بما يضمن توازناً بين العرض والطلب، لتحقيق عائد مناسب للمزارعين، وتفادي تكبدهم خسائر فادحة.
وأكد د. محمد محمود، رئيس لجنة المخصبات السابق والأستاذ بمعهد البساتين التابع لمركز البحوث الزراعية، أن من الأشياء الأساسية التي أصبحت مطلوبة في الوقت الحالي هي عودة الدورة الزراعية (الثلاثية أو الخماسية)، لأنها ستساهم في حل مشكلة تفتت الحيازة الزراعية.
وقال الدكتور نادر نور الدين، أستاذ الاقتصاد الزراعي والمياه بجامعة القاهرة: “الخلاصة أن المايسترو غائب عن قطاع الزراعة، ونأمل في الإنقاذ قبل فوات الأوان، فرضاء الفلاح هدف كبير يعكس حالة الرضا العام عن الأداء”.