أطفال على الأرصفة وفي القمامة.. إلى أين أوصلتنا مأساة “الزواج العرفي” وضعف الرقابة الحكومية؟

استيقظت مدينة الزقازيق في صباح الثامن من نوفمبر الماضي على مشهد صادم هزّ القلوب قبل العقول، حين لمح صاحبُ محل ـ أثناء فتح أبوابه ـ ثلاثةَ أطفال يتجولون في طريق جانبي وسط الزراعات؛ أكبرهم لا يتجاوز الرابعة، بينما كانت رضيعة تزحف على يديها وقدميها في مشهد يقطّع القلب.

حمل الرجل الأطفال ووضعهم أمام محله وقدم لهم الطعام، ثم سأل الصغير عن والدته، فأجابه ببراءة: “ماما راحت السوق من امبارح”.

ولم يتمالك الرجل نفسه، فوثّق الموقف بمقطع مصوّر نشره عبر حسابه على موقع “فيسبوك”.

وبعد انتشار الفيديو، تحرك المجلس القومي للطفولة والأمومة ـ الذي كثيرًا ما يأتي تدخله متأخرًا ـ للتحقق من الواقعة.

وأكدت الدكتورة سحر السنباطي، رئيسة المجلس، في بيان رسمي، أن وحدة حماية الطفل تدخلت لتقديم الرعاية للصغار، وهم: طفل يبلغ نحو أربعة أعوام، وطفلتان تبلغ إحداهما ثلاثة أعوام، بينما لا يتجاوز عمر الأخرى عامًا واحدًا. وتبيّن أنهم أبناء سيدة ارتبطت بعقد زواج عرفي ولم تستطع إثبات نسبهم.

حوادث متكررة… ومشهد واحد يتكرر

هذه الواقعة لم تكن استثناءً، ففي محافظة المنيا، عثر عمال نظافة على رضيع ملقى في القمامة على الطريق الصحراوي، بينما شهدت مدينة المحلة الكبرى فرار سيدة تركت طفليها في الشارع وسط ذهول المارة.

وتتابع حوادث مشابهة في الإسماعيلية وشبين القناطر وبورسعيد وإمبابة وبولاق الدكرور وغيرها، حيث يُترك الرضّع في الشوارع أو أمام المستشفيات، في مشهد يكشف اتساع الظاهرة وخطورتها.

وفي الإسكندرية، ارتُكبت واحدة من أبشع الجرائم عندما ألقت أم بطفليها من أعلى كوبري مشاة بمنطقة العامرية. وتبيّن أن أحدهما غير مُسجّل في أي سجلات رسمية، ما يعكس حجم الإشكال القانوني والاجتماعي المرتبط بهذه الحالات.

أرقام تعكس عمق المشكلة

تشير بيانات وزارة التضامن الاجتماعي إلى وجود نحو 22 ألف طفل مجهول النسب في مصر، بينهم 12 ألفاً يعيشون في أسر بديلة، وقرابة 10 آلاف في دور الرعاية.

غير أن الخبراء يرون أن الأعداد الحقيقية أكبر بكثير، لأن كثيراً من الحالات لا تُسجّل رسميًا نتيجة الزواج العرفي أو العلاقات غير الرسمية.

وتعمل في مصر قرابة 500 دار رعاية للأطفال، بعضها حكومي والآخر يتبع جمعيات أهلية وخيرية، إضافة إلى أكثر من 30 ألف جمعية تعمل في مجال دعم الأيتام ومجهولي النسب.

ورغم هذا العدد الكبير، فإن وصول المهندس رامي الجبالي، مؤسس صفحة “أطفال مفقودة”، لصور تُظهر أكثر من 20 طفلًا ينامون على الأرض في منزل إحدى السيدات، يؤكد أن جزءًا من الظاهرة لا يزال بعيدًا عن أعين الرقابة.

ضعف الرقابة.. ثغرة تسمح بتفاقم الظاهرة

أعلنت وزارة التضامن الاجتماعي تنفيذ 121 زيارة رقابية خلال شهر واحد، أسفرت عن تحرير 8 محاضر إغلاق لدور رعاية مخالِفة.

لكن مقارنة بحجم المؤسسات المنتشرة في المحافظات، تبدو هذه الحملات غير كافية، ففي كثير من الأحيان تأتي الرقابة بعد وقوع الانتهاك لا قبله، كما تكشف حملات الرقابة الإدارية عن مخالفات خطيرة تشمل سوء التغذية، غياب الرعاية الصحية، وانعدام تجهيزات الأمان داخل بعض الدور.

وفي ظل نشاط دور رعاية غير مرخصة تعمل خارج إشراف الدولة، تصبح بيئة التخلي عن الأطفال مهيأة للاتساع، بينما يبحث بعض الأهالي عن مهرب بإلقاء أطفالهم في الشوارع أو أمام المستشفيات.

الفقر والعادات… محركات خفية وراء الأزمة

ترجع الدكتورة عزة فتحي، أستاذة علم الاجتماع بجامعة عين شمس، تنامي الظاهرة إلى خليط معقد من الفقر والحرمان العاطفي والخوف من الفقد، إلى جانب الأعراف التي تمنح الزواج العرفي مشروعية اجتماعية في بعض القرى تفوق قيمة الوثيقة الرسمية.

في السياق ذاته، يوضح الدكتور فتوح الشاذلي، من كلية الحقوق بجامعة الإسكندرية، أن الظروف الاقتصادية الصعبة ومغالاة بعض الأسر في تكاليف الزواج تدفع الشباب للعقد العرفي بعيدًا عن علم الأسرة.

كما تلجأ بعض النساء للزواج غير الموثق خوفًا من قطع المعاش أو فقدان حضانة الأطفال، أو حفاظًا على استقرار أسرة الزوج الأولى.

صراع قانوني… وثغرات بلا حل

يؤكد متخصصو القانون أن الطفل الناتج عن زواج عرفي يملك حق إثبات نسبه إلى أبيه، بينما تُحرم الأم من أي حقوق مالية أو ميراث، لأنها غير معترف بها كزوجة رسميًا.

وتشير المحامية عزة سليمان إلى تناقض قانوني لافت؛ فالمرأة لا تستطيع إثبات الزواج بالورقة العرفية، لكنها تستطيع طلب الطلاق بها، ما يفتح ثغرات يستغلها البعض، خاصة عند انتهاء العلاقة دون توثيق.

مقارنة بذلك، تتجه بعض الدول كالسعودية لتسجيل الأطفال مجهولي النسب ومنحهم هوية مدنية تحمي حقوقهم، في نموذج مختلف للتعامل مع القضية.

الأطفال يدفعون الثمن

يؤكد الدكتور وليد رشاد، أستاذ علم الاجتماع بمركز البحوث الجنائية والاجتماعية، أن أي زواج غير معلَن أو غير موثق هو زواج غير سوي، لأنه يُسقط حقوق الطرفين ويدفع الأطفال إلى هوامش المجتمع.

وفي محاولة للحد من الظاهرة، تقترح الدكتورة هالة منصور منح جزء من المعاش للنساء اللاتي يتزوجن عرفيًا خوفًا من حرمانهن من الإعانة، باعتبار أن معالجة الأسباب الاقتصادية قد تساهم في الحد من تفشي المشكلة.

أضف تعليقك
شارك