بوجه شاحب تملؤه الحسرة، وقف عم يحيى، مزارع ستيني من قرية كفر الحصة بمركز نبروه بمحافظة الدقهلية، بجوار حظيرته الخالية، يروي ما أصابه وجيرانه من خسائر فادحة بسبب الحمى القلاعية.
يقول الرجل: “الحي اللي احنا فيه رايح منه حوالي 50 عجل، والناس اتدمرت، والحكومة مش بتسأل على أي حد”.
ولا يختلف حاله كثيراً عن مئات المربين في قرى الدقهلية والمنوفية والبحيرة، الذين يواجهون موجة جديدة من مرض الحمى القلاعية التي التهمت رؤوس ماشيتهم وهددت مصدر رزقهم الوحيد.
وفي القرية ذاتها، يتحدث عم حسين بمرارة عن تقصير حملات التحصين الحكومية قائلاً: “وزارة الزراعة بعتت حملات أكتر من مرة تقف جنب مسجد الكفر، بس الموظف ما يقعدش نص ساعة ويمشي، والناس ما تلحقش تحصن”.
ومأساة المربيين تتفاقم ليس فقط بسبب تفشي المرض، بل أيضاً لارتفاع تكلفة الكشف والعلاج، إذ يقول أحدهم: “الدكتور اللي جه يبص على البهايم أخد 4 آلاف جنيه كاش، طب الفلاح يجيب منين؟”.
شلل في البيع والشراء
امتدت الأزمة إلى الأسواق، فأصابت حركة البيع والشراء بالشلل، ففي سوق منوف بمحافظة المنوفية، يقول شابان من المربين: “الدور ماشي – يقصدان الحمى القلاعية – وحال السوق واقف، مات عندنا رأسين من كام يوم”.
وفي سوق شبين الكوم، وصف أحد المربين مشهد السوق بأنه “سواد مغلي”، مشيراً إلى أن انتشار المرض أوقف عمليات البيع والشراء، وأضاف آخر: “خربت، مابقاش في بيع ولا شرا، والمفروض يقفلوا السوق شوية ويرحموا الفلاحين”.
ويوضح المربي سيد الشيخ – في سوق دمنهور بمحافظة البحيرة – أن انتشار المرض تسبب في انخفاض أسعار رؤوس الماشية نظراً لتخوف المشترين، بينما نصح التاجر عبدالله فتحي المربين بالتحصين قائلاً إن اللقاح هو الحل الوحيد لتفادي الإصابة بالعترة الجديدة.
وتأثرت أسواق الأغنام كذلك، حيث يقول المربي إبراهيم: “الدور اللي في المواشي يهز السوق كله لأنها شبكة واحدة”.
وفي سوق الحامول بمحافظة كفر الشيخ، يروي الجزار “سعيد” صورة أخرى من الركود: “الأفندي لما يسمع إن في حمى قلاعية بيخاف يقطع لحمه، في بيع وشرا بس في ركود، والسكينة نايمة شوية”.
ما هي الحمى القلاعية؟
تُعرف المنظمة العالمية لصحة الحيوان (WOAH)، مرض الحمى القلاعية، بأنه مرض فيروسي شديد العدوى يصيب الحيوانات ذات الظلف المشقوق مثل الأبقار، الجاموس، الأغنام، الماعز، ويسببه فيروس ينتمي إلى جنس “Aphthovirus” من عائلة “Picornaviridae”، ويوجد منه سبعة عترات مختلفة (A، O، C، SAT1، SAT2، SAT3، Asia1)، لا تمنح مناعة متبادلة فيما بينها.
ينتقل الفيروس بسرعة كبيرة عبر الهواء أو الاحتكاك المباشر، ويسبب ارتفاع الحرارة وظهور فقاعات وتقرحات في الفم والقدمين، ما يؤدي إلى ضعف الحيوان وانخفاض إنتاج الحليب واللحوم.
وأوضح الدكتور حامد الأقنص، رئيس هيئة الخدمات البيطرية، أن المرض فيروسي شديد الانتشار ينتقل بالاتصال المباشر وغير المباشر وحتى عبر الهواء لمسافة قد تصل إلى 120 كيلومترًا، ما يجعل ذروة انتشاره في شهري يناير وفبراير.
استعدادات رسمية… لكنها لم تمنع الخسائر
رغم تأكيدات المسؤولين بأن الهيئة العامة للخدمات البيطرية بدأت استعداداتها مبكرًا منذ مارس 2025 بعد رصد العترة الجديدة في دول مجاورة مثل ليبيا والسودان، واستكمال إجراءات العزل محلياً في يونيو الماضي بقرية كفر علم بمحافظة البحيرة، فإن المرض استطاع أن يصيب آلاف الحيوانات قبل أن تصل الحملة الأساسية للتحصين إلى معظم القرى.
وفي أغسطس 2025، أعلنت وزارة الزراعة إنتاج 8 ملايين جرعة لقاح للعترة الجديدة SAT 1، تم تحصين نحو 4 ملايين رأس ماشية فقط، قبل بدء الحملة الرسمية في 27 أكتوبر 2025، والتي استمرت شهر ونصف.
ورغم هذه الخطوات المبكرة حسب البيان الرسمي، تفاقمت الخسائر بين صغار المربين الذين لم تصلهم اللقاحات في الوقت المناسب.
وأكد رئيس الهيئة أن المرض لا يؤثر على جودة اللحوم أو الألبان، معتبراً أن التعامل السريع مع العترة الجديدة يمثل “قصة نجاح” مقارنة بأزمات 2006 و2012.
إلا أن الفلاحين يرون أن هذا “النجاح” جاء بعد أن خسرت آلاف رؤوس الماشية، فيما يظل العلاج مكلفاً وطويل الأمد، ويضغط على صغار المربين الذين يعجزون عن الوفاء بالتكاليف.
وفي بيان رسمي لاحق، أعلنت الوزارة تحصين 1.2 مليون رأس ماشية بواقع 2.4 مليون جرعة، مؤكدة أن الوضع تحت السيطرة، وأن اللحوم آمنة إذا كانت من مصادر موثوقة.
لكن الخبراء يرون أن التحدي الأكبر لم يكن في توفير اللقاحات فقط، بل في وصولها للحقول والمزارع في الوقت المناسب، والتأكد من التزام المربين بالحملة، خاصة مع الانتقال من الصيف إلى الشتاء، وفق تحذيرات رئيس الجمعية البيطرية المصرية الدكتور كميل متياس.
من جانبه، اعتبر الدكتور مجدي حسن، نقيب الأطباء البيطريين، أن الحمى القلاعية من أخطر التهديدات التي تواجه الثروة الحيوانية في مصر، داعياً إلى تعزيز دور هيئة الخدمات البيطرية وتوفير اللقاحات اللازمة لتغطية الاحتياجات الوقائية.
تراجع أعداد رؤوس الماشية
ويمتلك صغار مربي الماشية الذين يعيشون في أكثر من 4,700 قرية تمتد عبر المحافظات، يعيش فيها 60 مليون و768 ألف مواطن يمثلون نحو 58% من سكان البلاد، وفق بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة، حوالي 70 % من حجم الثروة الحيوانية بحسب تصريح لـ “علاء فاروق” وزير الزراعة واستصلاح الأراضي في الحكومة الحالية.
وتراجعت أعداد رؤوس الماشية والحيوانات من 18.5 مليون رأس عام 2014 إلى 8.1 مليون رأس عام 2024 (أبقار – جاموس – أغنام – ماعز – جمال)، وفق النشرة السنوية لإحصاء الثروة الحيوانية الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء في 4 نوفمبر 2025.
هذا التراجع انعكس على فاتورة الاستيراد، إذ بلغ متوسط ما استوردته مصر من اللحوم بين عامي 2014 و2022 نحو 522 ألف طن سنوياً.
وسجل عام 2018 أعلى معدل استيراد بنحو 912 ألف طن، بينما كان 2022 الأدنى بـ 349 ألف طن، بقيمة 1.5 مليار دولار للحوم و123.6 مليون دولار للأبقار والجاموس الحي.
وفي 2023 بلغت قيمة الواردات 1.2 مليار دولار للحوم و72 مليون دولار للأبقار والجاموس، لترتفع مجدداً في 2024 إلى 1.225 مليار دولار، بحسب نشرة التجارة الخارجية.
بين صرخات المربين وطمأنة المسؤولين، تبقى الحمى القلاعية جرس إنذار جديد حول هشاشة الثروة الحيوانية، وضرورة تطوير منظومة التحصين والدعم لصغار الفلاحين الذين يمثلون العمود الفقري للأمن الغذائي في الريف.