منظومة تسويق القطن.. خسائر تطارد المزارعين ومحصول على شفا الانقراض

في قرية شباس الملح بمركز دسوق بمحافظة كفر الشيخ، يقف  المزارع سامي الطوخي في حقله محاطاً بألوان القطن الأبيض، لكنه لا يرى سوى القلق والإحباط.

يتساءل بصوت يملؤه الحزن: “كيف يبيع مزارع القنطار بـ7 آلاف، وآخر بـ13 ألفًا، بينما يقف الاثنان في حقول متجاورة؟ وكيف تُقيم محصولي من دون أن أكون شاهدًا على المزاد؟”

ويقول سامي إن هناك ثلاث شركات كبرى تسيطر على تجارة القطن، والموظفون في المزادات يضعون الأسعار وفق مصالح تلك الشركات.

ويضيف: “يبيع أحدهم القنطار بـ6 آلاف جنيه، ويبيعه آخر بـ12 ألفاً، في حين تبلغ تكلفة الفدان 26 ألف جنيه، والمحصول لا يغطيها، وهناك بعض الفلاحين تركوا القطن في الأرض حتى يجف، ونحن أحرقنا كميات احتجاجًا على الأسعار المتدنية وعدم صرف المستحقات”.

إنتاج ضعيف

يواجه زيدان محمد في الدقهلية مأساة مماثلة، حيث يقول: “أرضي اعتادت أن تنتج نحو ثمانية قناطير، لكن العام الماضي لم تعطني سوى قنطار وربع فقط، بسبب الآفات الزراعية، والتغيرات المناخية، والمبيدات المغشوشة، وسط غياب أي دعم حكومي”.

ويوضح زيدان أن الحكومة وعدت بسعر 12 ألف جنيه للقنطار، بينهم 2000 جنيه دعم، لكنه لم يتحقق.

وتابع: “صرفنا المستحقات بعد شهور طويلة في أغسطس، بعد أن ارتفعت تكاليف الإنتاج والإيجارات، وأصبح العائد لا يغطي النفقات الأساسية”.

وأثناء قيامه بجني محصول قطن الموسم الحالي – الذي يمتد من أغسطس حتى نوفمبر حسب كل منطقة – قال مزارع آخر يدعى رمضان: “كنت أتوقع أن يصل سعر قنطار القطن إلى 20 ألف جنيه العام الماضي، وقلنا سنرضى بأسعار تتراوح بين 10 و14 ألف جنيه، لكن بيع المحصول بأقل من هذه الأسعار سيشكل كارثة حقيقية للمزارعين”.

أزمة مستمرة

ويبدو أن أزمة التسويق مستمرة منذ العام الماضي، كما أوضح المزارع مجدي المرسي من مركز بلقاس بمحافظة الدقهلية، خلال اتصال هاتفي ببرنامج “الأرض” على قناة “مصر المستقبل”، قائلًا: “ما حدث في محصول القطن لم يحدث في تاريخ مصر كله. فقد قام المزارعون بتوريد المحصول لمراكز التجميع وظل هناك لأكثر من 5 أشهر دون توضيح متى سيحصل الفلاح على ثمنه، ولم يخرج مسؤول واحد لشرح الأمر، وكأنه سر كوني”.

ووصف المرسي حالة مزارعي القطن قائلاً: “الناس تسير وكأنها تتحدث مع نفسها، وإنتاجية المحصول تراجعت بشكل كبير، فالفدان الذي كانت إنتاجيته تتراوح بين 8 و12 قنطارًا لن ينتج هذا الموسم أكثر من 3 قناطير، الأمر الذي يعني أنه لن يغطي حتى تكاليف الإنتاج الأساسية”.

شكاوى المصدرين

وفي نفس الوقت، وصل صدى الأزمة إلى اتحاد مصدرّي الأقطان في القاهرة، الذي أرسل مذكرة رسمية إلى وزيري الاستثمار والمالية يشكو فيها عدم القدرة على تسويق محصول القطن الحالي.

علاوة على ذلك، أرسلت كبرى شركات التصدير مذكرة إلى مجلس الوزراء، مشيرة إلى توقف 325 شركة خاصة عن العمل هذا الموسم بسبب ارتفاع أسعار الضمان وانخفاض الأسعار العالمية، ما تسبب في خسائر تصل إلى 2000 جنيه للقنطار الواحد.

المزارع بلا دعم

في ضوء هذه الأزمات، كشف المهندس الزراعي محمد خضر، رئيس هيئة تحكيم القطن السابق، أن: “الفلاح لا يحصل على أي دعم، على عكس الدول الأخرى. المنظومة تعتمد على المزادات، والشركات تواجه أعباء مالية تجعلها ترفض أحيانًا الشراء بأسعار لا تغطي التكاليف”.

ويضيف خضر أن تدخل الحكومة بأسعار الضمان لم يكن مرنًا، فالكثير من المستحقات لم تُصرف لعدة أشهر، ما أدى إلى تراجع المساحة المزروعة هذا العام إلى نحو 195 ألف فدان مقارنة بـ314 ألف فدان الموسم السابق. ويحذر: “هذا التراجع يهدد استمرارية زراعة القطن في مصر على المدى الطويل”.

فشل آليات التسويق

من ناحية أخرى، كشف الدكتور طارق أبو موسى، أستاذ الاقتصاد الزراعي بمركز البحوث الزراعية، أن أزمة القطن تفاقمت مع آليات التسويق الحالية التي تعتمد على المزادات بعد تحرير تسويق المحاصيل، حيث دخل القطاع الخاص بقوة وأصبح ينافس الدولة، مما أربك السوق وأضر بالمزارعين.

ويوضح أبو موسى أن شركات القطاع الخاص رفضت سعر الضمان المحدد من قبل الحكومة، وهو 10 آلاف جنيه لقنطار القطن في الوجه القبلي و12 ألف جنيه لقطن الوجه البحري، بالرغم من أن هذا السعر غير عادل وفقًا لتقديرات الإنتاجية والتكاليف الفعلية للعام السابق، مما اضطر الهيئة العامة للأقطان إلى شراء القطن لحسابها.

وأضاف: “حتى الآن لم يتم سداد باقي ثمن القطن للمزارعين، ونتيجة لهذا التخبط وعدم وجود سياسة زراعية واضحة فيما يخص إنتاج وتسويق محصول القطن، تتقلص المساحة المزروعة عامًا بعد الآخر”.

تراجع المساحة وأسبابها

ونتيجة فشل منظومة التسويق الجديدة، انخفضت المساحة المنزرعة بمحصول القطن من 334 ألف فدان عام 2021/2022 إلى 311 ألف فدان خلال عام 2023/2024 بحسب البيانات الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، وتراجعت إلى 195 ألف فدان خلال الموسم الزراعي الحالي بحسب تصريح للدكتور مصطفى عمارة، وكيل معهد بحوث القطن.

وأرجع المهندس سعيد طه، مفتش إرشاد بنها بمديرية الزراعة في محافظة القليوبية، سبب تراجع المساحات هذا العام لمشاكل التسويق وارتفاع تكلفة المكافحة والزراعة، مما دفع الفلاحين لزراعة محاصيل أخرى مثل الأرز والبطاطس.

كما أوضح المهندس سمير راشد، مدير إدارة المتابعة بمديرية الزراعة في محافظة الشرقية، أن سبب التراجع يعود أيضًا لعدم صرف المستحقات المالية الخاصة بالتوريد، وكذلك بعض الشكاوى الخاصة بالبذور.

الأسعار وآلية السوق

وفي سياق متصل، أكد وليد السعدني، رئيس لجنة تنظيم تجارة القطن بالداخل، أنه لم يعد هناك ما يسمى بـ”سعر الضمان” لتوريد القطن، مشيراً إلى أن تسعير المحصول أصبح يعتمد بالكامل على آلية العرض والطلب وفقًا للأسعار العالمية، والتي تشهد حاليًا حالة من الانخفاض.

وقال السعدني: “إن هذه الآلية تشبه التعامل في البورصات العالمية، مثل الذهب الذي يتغير سعره من يوم إلى آخر، ويعد اختلاف أسعار المحاسبة بين الفلاحين أمرًا طبيعيًا، فقد يبيع أحدهم القنطار بسعر عشرة آلاف جنيه، بينما يبيعه آخر في اليوم التالي بسعر 11 ألفًا، أو حتى ثمانية آلاف، وذلك وفقًا لحركة السوق”.

وأوضح أن تباين الأسعار بين منطقة وأخرى أو بين أسبوع وآخر يعود إلى طبيعة السوق العالمية للقطن، من حيث التغير المستمر في الأسعار اليومية، وهو ما يفسر حصول بعض المزارعين على أسعار مختلفة لنفس المحصول في فترات متقاربة.

وأكد السعدني أن نظام السداد تغير جذريًا، بحيث يحصل المزارع على كامل مستحقاته خلال 20 يومًا من تاريخ البيع، وذلك لتجنب الأضرار التي لحقت بهم في المواسم السابقة نتيجة تأخر الصرف.

تحرك برلماني

ومع تفاقم الأزمة، طالب النائب هشام الحصري، رئيس لجنة الزراعة والري بمجلس النواب، الحكومة متمثلة في الشركة القابضة للغزل والنسيج بضرورة الالتزام بأسعار الضمان المعلنة من قبل مجلس الوزراء مسبقًا بشأن محصول القطن، والتي تبلغ 12 ألف جنيه للقنطار من الوجه البحري و10 آلاف للقنطار من الوجه القبلي. وحذر من أن استمرار الأزمة قد يؤدي إلى كارثة في الموسم المقبل.

وعقب ذلك، رد وزير الزراعة، علاء فاروق، بالتزام الحكومة بسداد المستحقات خلال أسبوعين، لكن النواب طالبوا مجددًا بكشف الأسباب الحقيقية لتراجع المساحات المزروعة بنسبة 58% منذ بداية الموسم، مؤكدين أن المشكلة تتطلب رؤية استراتيجية شاملة.

تراجع الصادرات

وفي ضوء هذه المعطيات، كشف وليد يحيى، وكيل معهد بحوث القطن، عن تراجع صادرات مصر من القطن بنسبة 22% موسم 2024-2025، لتسجل 38.8 ألف طن مقابل 50 ألف طن الموسم السابق، بقيمة 128.6 مليون دولار.

وأضاف يحيى أن هناك 23 شركة استحوذت على صادرات القطن خلال الموسم الحالي، بنسبة 81% من حجم الصادرات، فيما صدّرت شركة حكومية واحدة هي “مصر لتجارة وحليج الأقطان” نسبة 19% من الصادرات، مضيفًا أن الشركة الحكومية تدخر لديها كميات كبيرة من القطن تزيد على 28 ألف طن للموسم المقبل.

كما أوضح نبيل السنتريسي، عضو اتحاد المصدرين، أن السبب يعود إلى ارتفاع أسعار الضمان وتأخر انطلاق التصدير، ما أدى إلى خسارة السوق 3 أشهر مهمة من الموسم التصديري، وهي الفترة التي تشهد عادة نصف الإنتاج السنوي تقريبًا.

المصانع والقطن المصري

وفي نفس السياق، قال مجدي طلبة، رئيس “شركة تي آند سي” للملابس الجاهزة، إن أغلب الاستثمارات العاملة في قطاع الغزل والنسيج في مصر تهتم أكثر بالأقطان المستوردة نظرًا لقلة تكلفتها مقارنة بتكلفة الأقطان المصرية.

بينما تقول ماري لويس، رئيسة شركة البشارة للأزياء، إن المصانع في مصر أغلبها يهتم بمنتجات لا تستخدم الأقطان الطويلة، واعتادت المصانع على هذا الوضع لسنوات طويلة لعدم قدرتها على التعامل مع القطن المصري، ولتغيير ذلك ينبغي وضع استراتيجية عمل كاملة للصناعة بداية من الزراعة إلى المرحلة النهائية وقت التصدير.

مقترحات للأزمة

وفي هذا الإطار، اقترح الدكتور محمود الباجوري، الخبير في مجال الأقطان ورئيس إحدى الشركات، إنشاء وزارة مستقلة للقطن ومنتجاته، ابتداءً من الحلج والغزل والملابس والبذرة ومستخرجاته، فهو سلعة استراتيجية ومنتج عالمي مطلوب.

وتقدمت شركات القطن بعدد من الاقتراحات لحل أزمة التسويق، تضمنت السماح للشركات الخاصة بفتح حلقات خاصة تحت إشراف الهيئة العامة للتحكيم واختبارات القطن واللجنة العامة لتنظيم وتجارة القطن، إلى جانب حلقات المنظومة الحكومية، وترك حرية الاختيار للمزارعين بالتوريد إلى أي حلقة.

أضف تعليقك
شارك