في صباحٍ باكرٍ بمدرسة ابتدائية في بني مزار بمحافظة المنيا، كانت المعلمة شيماء كريم تستعد لدخول فصلها كما اعتادت طوال ثلاث سنوات، حين فوجئت بقرار مفاجئ يخبرها بأن خدماتها لم تعد مطلوبة.
لم تصدق ما سمعت، فبين دفاتر التحضير وأصوات التلاميذ الذين يرددون السلام الوطني، كانت تشعر أن المدرسة بيتها الثاني.
“اشتغلت أكتر من سنتين وسنة تطوع وسنة خدمة عامة، وفجأة استغنوا عنا وجابوا ناس جدد، ليه؟ هل ده رد الجميل؟” تقول شيماء بحرقة خلال وقفة احتجاجية بثتها وسائل إعلام مصرية.
لم تكن شيماء وحدها، فالمئات من معلمي الحصة في المنيا وعدة محافظات أخرى فوجئوا بقرارات الاستغناء عنهم رغم سنوات من الجهد والمثابرة بأجور زهيدة بالكاد تكفي مصروفات المواصلات.
هؤلاء الذين سُدّ بهم العجز المزمن في المدارس أصبحوا اليوم ضحايا قرار وزاري جديد، في وقت تتحدث فيه الدولة عن تحسين جودة التعليم ودعم المعلم.
بين تشديد الوزارة والتهديد بالاستبعاد
بعد أيام من تصاعد شكاوى معلمي الحصة، جاء رد وزارة التعليم حادًا، إذ وجهت تعليمات مشددة بضرورة التزامهم بالحضور منذ بداية الطابور الصباحي حتى نهاية اليوم الدراسي، مؤكدة أن أي معلم يتغيب أو يتأخر “سيتم إنهاء تكليفه فورًا واستبداله بآخر”.
غير أن البيان الوزاري لم يتطرق إلى معاناتهم أو أسباب احتجاجهم، مكتفيًا بالتهديد بالعقاب، في ما اعتبره كثيرون محاولة للهروب من استحقاقات طال انتظارها.
تقول أسماء فتح الله، وهي معلمة حصة من المنيا: “اشتغلت ست سنين، منهم سنتين بدون أجر، والباقي كنا بناخد 750 جنيه متأخر ومتقطع. دلوقتي بيستغنوا عننا كأننا ما قدمناش حاجة”. وتضيف بأسى: “عايزين نرجع مدارسنا، إحنا عندنا خبرة ومش أقل من غيرنا”.
وفي مركز ملوي المجاور، تروي الشيماء الإمام، معلمة رياض أطفال، معاناتها قائلة: “العجز في المعلمين لسه موجود، ومع ذلك استبعدونا، طب فين المنطق؟”.
تلك القصص الفردية تحولت إلى صرخة جماعية مع مطلع أكتوبر الجاري، حين أصدر مئات من معلمي الحصة بيانًا موجّهًا إلى القيادة السياسية، قالوا فيه: “نتوجه إليكم بقلوب يعتصرها الألم، نيابة عن آلاف المعلمين الذين أفنوا شبابهم في خدمة العملية التعليمية، ثم وجدوا أنفسهم فجأة مُسرّحين ومهمشين بعد سنوات من التفاني والإخلاص”.
وأكد البيان أن هؤلاء المعلمين “سدّوا العجز الصارخ في المدارس برواتب زهيدة أو حتى بدون مقابل، إيمانًا برسالتهم التعليمية، ثم كانت مكافأتهم التسريح والنسيان”.
وطالبوا بالتدخل الفوري والعاجل لإعادة النظر في قرارات الاستبعاد، وتقنين أوضاعهم بعقود رسمية تضمن لهم الاستقرار المادي والمعنوي إلى حين انتهاء مسابقات التعيين.
كما دعوا وزارة المالية إلى صرف مستحقاتهم المتأخرة عن العام الماضي، التي وصفوها بأنها “حق مكتسب وليس منّة”.
وفي 24 سبتمبر الماضي، أصدر معلمو الحصة بمحافظة الجيزة بيانًا مماثلًا، كشفوا فيه أنهم تعرضوا لما وصفوه بـ “ظلم بيّن”، بعد أن استعانت الوزارة بهم خلال أزمة العجز ثم ضغطت عليهم لإخلاء طرفهم دون تقدير لجهودهم.
وقالوا إن التعامل معهم باعتبارهم “حلًا مؤقتًا” يمثل إهدارًا لحقوقهم ودليلًا على غياب رؤية واضحة لإصلاح المنظومة التعليمية.
أزمة عدم تقنين أوضاع المعلمين
لم تتوقف الأزمة عند المعلمين الجدد، بل امتدت لتشمل من تجاوزوا سن الخامسة والأربعين، ممن أمضوا سنوات طويلة في التعليم بنظام الحصة.
هؤلاء وجهوا نداءً لوزير التربية والتعليم محمد عبد اللطيف، يطالبون فيه بقرارات عاجلة لتقنين أوضاعهم بما يتناسب مع سنوات العطاء.
في بيان صدر نهاية مايو الماضي، أوضحوا أنهم يعملون منذ عقود في المدارس الحكومية والخاصة دون كلل، مؤدين دورهم في أصعب الظروف، لكنهم يواجهون خصومات مالية وتأخيرات مستمرة في صرف رواتبهم.
وقالوا إنهم يتعرضون لتمييز داخل المدارس، إذ يُنعتون من قبل بعض زملائهم بـ “معلمي الأجر”، رغم أنهم يحملون مؤهلات تربوية وخبرة تفوق الكثيرين.
وأكدوا: “نحن خريجو كليات التربية، أبناء الوزارة، لا نعرف مهنة سوى التعليم. الاستغناء عنا في هذا العمر يعني ضياع أسر بأكملها”.
“ضوابط الحصة”
رغم الدور الحيوي الذي يؤديه معلمو الحصة في سد العجز بالمدارس، فإن عملهم يخضع لضوابط محددة تصدر عن وزارة التربية والتعليم.
تشمل هذه الضوابط المؤهل العلمي، سنوات الخبرة، التوزيع الجغرافي، واشتراطات التدريب الطبي والأمني.
كما تضمن اللوائح حقوقهم التأمينية، مثل التأمين الصحي، ومعاش العجز، ومكافأة نهاية الخدمة، لكن التطبيق العملي لهذه الضوابط يشوبه تأخير وصعوبات، مثل الاستبعاد المفاجئ أو التأخير في صرف المستحقات، مما يضع المعلمين في مواجهة ضغوط نفسية.
الأزمة تنتقل للبرلمان
لم تمر الأزمة بصمت داخل الأروقة التشريعية، إذ تقدّم النائب أشرف أمين بسؤال إلى رئيس مجلس النواب في سبتمبر الماضي، حول ضوابط الاستعانة بمعلمي الحصة.
وأشار إلى أن العجز في المعلمين ما زال مستمرًا رغم حلول الوزارة المؤقتة، متسائلًا: “ما هي المعايير التي تضمن اختيار الأكفأ بعيدًا عن الوساطة؟ وعلى أي أساس تحدد الوزارة أجورًا لا تكفي حتى للانتقال من البيت إلى المدرسة؟”.
وطالب النائب بتطبيق الحد الأدنى للأجور على معلمي الحصة، والذي يبلغ 7 آلاف جنيه، مؤكدًا أن استمرار هذا الوضع يمثل “التفافًا على توجيهات الدولة بتحسين أوضاع المعلمين”.
كما دعا النائب إلى وضع آلية تقييم لمدة عامين لمعلمي الحصة تُبنى على الكفاءة والانضباط، تمهيدًا لتثبيتهم رسميًا بدلًا من تركهم فريسة لعقود هشة.
وأضاف أن غياب رؤية واضحة تجاه هذه الفئة يعكس “سياسة المسكنات المؤقتة التي تفاقم الأزمة بدلًا من حلها”.
هل كاد المعلم أن يكون فقيرا؟
تعيش المدارس المصرية منذ سنوات أزمة مزمنة تتمثل في نقص أعداد المعلمين.
فبحسب بيانات رسمية، يبلغ العجز نحو 469 ألف معلم، بينما تشير تقارير أخرى إلى أن العدد الحقيقي قد يتجاوز 600 ألف.
ورغم إعلان الوزارة تخصيص 6 مليارات جنيه لتعيين 120 ألف معلم وعامل، إلا أن المسابقة لم تُفعّل حتى الآن.
وتوضح وزارة التعليم أن اختيار معلمي الحصة يخضع لمعايير تشمل المؤهل التربوي والخبرة والتوزيع الجغرافي، مع أولوية لمن اجتازوا اختبارات التنظيم والإدارة.
لكن تلك الوعود لم تمنع تصاعد الغضب، خاصة بعد تأخر المستحقات وتضارب التعليمات بين المديريات.
من جانبه، اعترف الوزير محمد عبد اللطيف في تصريحات سابقة بأن الوزارة تواجه “أزمة حادة في العجز”، مشيرًا إلى أن عدد العاملين بالوزارة يبلغ نحو مليون موظف، منهم 823 ألف معلم داخل الفصول. غير أن تلك الأرقام لا تبدد الواقع القاسي الذي يواجهه آلاف من معلمي الحصة.
تراجع الإنفاق على التعليم
ويؤكد تقرير للبنك الدولي لعام 2023 أن تراجع الإنفاق على التعليم في مصر أدى إلى نقص حاد في جودة العملية التعليمية، بسبب قلة أعداد المعلمين مقارنة بالطلاب، إذ يتجاوز عدد الدارسين في مراحل التعليم قبل الجامعي 24 مليون طالب.
وفي الوقت الذي ترتفع فيه نفقات المعيشة وأسعار الدروس الخصوصية، لا يزال أجر معلم الحصة بعد الخصومات لا يتجاوز 37.5 جنيهًا للحصة الواحدة، أي أقل من دولار أمريكي. ويُصرف الراتب غالبًا كل شهرين، مع حصص تطوعية يُطلب منهم تقديمها دون مقابل.
تلك المفارقة الموجعة بين الحديث الرسمي عن تطوير التعليم وواقع المعلمين المؤقتين، تجعل من قضية “معلمي الحصة” اختبارًا حقيقيًا لمدى جدية الإصلاح التعليمي في مصر