رصاص بلا محاكمة.. التصفية خارج القانون تلاحق المصريين من بحري حتى الصعيد

“المتهم بريء حتى تثبت إدانته” مبدأ قانوني راسخ نظريًا، لكنه في الواقع، وفي ظل ممارسات الأجهزة الأمنية، يبدو وكأن المتهم مدان مسبقًا، ولا تنتظر السلطات إثبات براءته.

هذا المسار فرضته عمليات القتل والتصفية التي تنفذها الأجهزة الأمنية في مصر تحت مسمى ملاحقة “عصابات خارج القانون”، والتي باتت ظاهرة مقلقة، خاصة في محافظات الصعيد، وحالات أخرى في الوجه البحري نتيجة التعذيب داخل مقار الاحتجاز، ما يثير تساؤلات حول عودة الأجهزة الأمنية إلى أساليبها القديمة في التعامل مع المواطنين.

هذه الممارسات تمثل انتهاكًا واضحًا لحرمة البيوت وتقاليد المجتمع الصعيدي والعرف العام، الذي يرفض إهانة او احتجاز السيدات، وترويع الأطفال، وتدوس هذه الأفعال على الكرامة الإنسانية وأهل بمبدأ أن العقوبة لا تكون إلا بحكم عادل.

آخر هذه الحوادث كانت في مدينة المحلة الكبرى بمحافظة الغربية، حيث توفي المواطن خليل محمد أبو هبه نتيجة التعذيب داخل حجز قسم شرطة ثالث المحلة.

وفي مقطع متداول عبر منصات التواصل الاجتماعي، قال شقيقه: “قبضوا عليه دون ذنب، واقتادوه للقسم مكتوف الأيدي، واعتدوا عليه بالضرب المبرح حتى فارق الحياة لأنه رفض أن يعطيهم مفتاح سيارته. اسم الضابط أحمد الصعيدي، وهددوني بالقتل لو اتكلمت، وقالولي محدش هيعرف مكاني”.

مأساة إدفو

وقبل هذه الواقعة بأيام قليلة، أواخر سبتمبر الماضي، شهد مركز إدفو بمحافظة أسوان مأساة أخرى، حين تمت تصفية أربعة مواطنين دون أدلة أو قرائن واضحة، بدلا من تقديمهم للمحاكمة أمام القاضي والمحكمة المختصة.

الضحايا هم: أحمد محمود عبدالعظيم (26 عامًا) خريج نظم المعلومات الإدارية، وصديق الأمير (35 عامًا) متزوج منذ عامين، وإبراهيم رمضان العكاز (39 عامًا)، ومحمد سعد الشهير بـ”حسن أبو قميلة” (32 عامًا) موظف مفتش صحة.

الأربعة كانوا في طريق عودتهم من قرية “وادي الصعايدة”، حين أطلقت الشرطة النار عليهم دون محاكمة أو فرصة للدفاع عن أنفسهم، بزعم تورطهم في الاتجار بالمخدرات.

وراء كل اسم منهم حكاية إنسانية مؤلمة؛ أحمد، الشاب المتعلم الذي كان يكافح من أجل لقمة العيش، وصديق الأمير الذي عمل بجد في نقل البضائع، وإبراهيم العكاز المواطن البسيط، ومحمد سعد الموظف الذي كان يعيل أسرته ويشارك في أعمال الجزارة خلال الأعياد.

جميعهم مواطنون جمعتهم الصدفة، لكن النهاية كانت مأساوية، حيث سُلبت حياتهم بدم بارد في 28 سبتمبر 2025.

هذه الحادثة فجّرت موجة غضب واسعة في المجتمع المحلي، الذي اعتاد احترام الدولة والقانون، لكنه لم يعد يحتمل مشاهد الدماء التي تسيل خارج المحاكم ودون أي تحقيق أو دليل.

جرائم متكررة

حادثة إدفو ليست استثناءً. ففي 23 أغسطس 2025، تمت تصفية محمد عادل عبدالعزيز (35 عامًا) في مركز القوصية بمحافظة أسيوط دون محاولة القبض عليه أو محاكمته، إذ تم اختطاف جثمانه بعد قتله في طريقه المعتاد. وفي يوليو الماضي، أعلنت وزارة الداخلية تصفية شخصين زعمت أنهما كانا يستعدان لتنفيذ عمليات عدائية، دون أن تقدم أي تفاصيل أو أدلة تؤكد هذه الرواية.

وفي أبريل، وقعت حادثة أخرى أكثر قسوة، حين تمّت تصفية الشابين يوسف السرحاني وفرج الفزاري في مرسى مطروح بعد أن سلمهما الأهالي للجهات الأمنية بناءً على اشتباه غير مؤكد بصلتهما بحادثة “النجيلة” التي راح ضحيتها أربعة من رجال الأمن.

المفاجأة الصادمة أن الشابين تمت تصفيتهما بعد فترة وجيزة من استلامهما، رغم أنهما سلّما نفسيهما طواعية، في حين استخدمت الأجهزة الأمنية أساليب ضغط على عائلتيهما، بينها احتجاز نساء من أقاربهما كرهائن لإجبارهما على التسليم.

كل هذه الحوادث تشترك في سمة واحدة: أن القتل يتم تحت مسمى “عصابات خارج القانون”، في حين أن الحقيقة تُظهر أنهم ضحايا لرصاص ميري أو تعذيب في مقار الاحتجاز.

توسع ظاهرة التصفية الجسدية

تشير تقارير منظمات حقوق الإنسان إلى أن عمليات التصفية خارج نطاق القضاء في مصر لم تعد حوادث فردية، بل اتخذت طابعًا ممنهجًا خلال السنوات الثلاث عشرة الماضية، في ظل سياسات “مكافحة الإرهاب” التي تبناها النظام منذ منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.

في بدايتها، استهدفت هذه السياسات المشتبه بانتمائهم إلى جماعات مسلحة، لكن مع الوقت توسعت الدائرة لتشمل مواطنين عاديين لا يشكلون أي تهديد، بل مجرد مشتبه بهم أو معارضين أو حتى متهمين في قضايا بسيطة.

وبحسب تقارير “هيومن رايتس ووتش” و”المبادرة المصرية للحقوق الشخصية”، فإن هذه العمليات غالبًا ما تُنفذ في ظروف غامضة دون رقابة قضائية أو شفافية، وتُصاحبها روايات رسمية متكررة عن “اشتباكات” مع الأمن، رغم وجود دلائل على أن بعض الضحايا كانوا محتجزين أو مصابين ومكبّلين وقت تصفيتهم.

التبييض الإعلامي

تتعامل بيانات وزارة الداخلية ووسائل الإعلام الرسمية مع هذه الحوادث من زاوية واحدة، إذ تصف الضحايا دائمًا بالمجرمين أو الإرهابيين، وتغيب عنها لغة القانون أو حقوق الإنسان.

كما تساهم اللجان الإلكترونية وبعض وسائل الإعلام الموالية في تلميع صورة الأجهزة الأمنية وتبرير القتل، باعتباره “واجبًا وطنيًا”.

الإطار القانوني الوطني والدولي

ينص الدستور المصري في مادته (96) على أن “المتهم بريء حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية عادلة تكفل له الضمانات اللازمة للدفاع عن نفسه”، وهو نص واضح وصريح يلزم السلطات باحترام المسار القضائي وعدم تجاوز القانون.

كما أن مصر دولة طرف في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية منذ عام 1982، والذي تنص مادته السادسة على أن “لكل إنسان حق أصيل في الحياة، ولا يجوز حرمان أحد من حياته تعسفًا”، وتؤكد المادة 14 على الحق في محاكمة عادلة أمام قاضٍ مستقل.

خطورة الممارسات الأمنية خارج إطار القانون

تمثل هذه الممارسات خطرًا مضاعفًا، على الأفراد أولاً، لأنها تحرمهم من حقهم في الحياة ومن محاكمة عادلة تكفل لهم الدفاع عن أنفسهم وتقييم الأدلة.

وعلى المستوى الاجتماعي، تؤدي هذه الانتهاكات إلى تآكل الثقة بين المواطنين والدولة، وتزرع الخوف والشك في النفوس.

وفقًا لتقارير حقوقية، فإن غياب المساءلة القانونية يفتح الباب أمام الإفلات من العقاب ويضعف مؤسسات العدالة، لتتحول الدولة إلى خصم وحكم في آن واحد، وهو ما يهدد سيادة القانون ذاتها.

الفقر والتفاوت التنموي في الصعيد

أدى غياب الصعيد عن خريطة التنمية إلى صعود شخصيات من عالم الجريمة، تغاضت عنهم الأجهزة الأمنية،وسعوا من باب الوجاهة الاجتماعية إلى تقديم خدمات للمجتمع المحلي المحروم، ما أكسبهم تعاطفا شعبيا واسعا، كونهم كفلوا الأيتام والأرامل حين قلصت الحكومة المستفيدين من معاش تكافل وكرامة.

تُعد محافظات الصعيد من أكثر المناطق معاناة في مصر من حيث الفقر ونقص الخدمات، ما يزيد من هشاشة النسيج الاجتماعي ويجعل الشباب أكثر عرضة للتهميش.

وفقًا لتقرير الدخل والإنفاق والاستهلاك لعام 2017‑2018 من الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، بلغت نسبة الفقر على مستوى مصر نحو 32.5%، بينما تُعد محافظة أسيوط الأكثر فقراً بنسبة تصل إلى 66.7%، تليها سوهاج بنسبة 59.6%، ثم الأقصر بنحو 55.3%، والمنيا بنسبة 54%، وقنا بما يقارب 41%.

بعض القرى في أسيوط وسوهاج تُعاني فقرًا شديدًا، تصل نسبته في بعضها إلى 80–100%.

كما أفادت بيانات حديثة أن نحو 49% من سكان ريف الوجه القبلي غير قادرين على تلبية احتياجاتهم الأساسية الغذائية.

رغم تخصيص الدولة استثمارات كبيرة للصعيد ضمن مبادرات مثل “حياة كريمة”، إلا أن نسب التنفيذ ما تزال منخفضة في العديد من القرى والمراكز النائية، حيث تفتقر إلى مرافق حكومية قوية أو خدمات متخصصة.

هذا الواقع التنموي المتدهور يجعل الاعتماد على الحلول الأمنية وحدها بلا جدوى، إذ يرى المجتمع الصعيدي أن الأمن الحقيقي لا يتحقق إلا عبر العدالة والتنمية المتوازنة، وليس بالرصاص والقمع.

ومع كل عملية تصفية خارج القانون، يتعمق شعور التهميش ويزداد الاحتقان الاجتماعي، مؤكداً أن هذه الظاهرة الأمنية مرتبطة بشكل وثيق بنقص التنمية وفرص الحياة الكريمة.

أضف تعليقك
شارك