غرق أراضي طرح النهر.. الحكومة تحذّر بلا بدائل وتركت الفلاحين ضحايا لنزوات إثيوبيا

لم يكن المشهد في قرى محافظة المنوفية مجرد ارتفاع في منسوب مياه النيل، بل تحوّل إلى مأساة إنسانية كاملة.
على مواقع التواصل الاجتماعي، انتشر مقطع فيديو لمزارع يقف وسط مياه النيل التي أغرقت منزله وأراضيه الزراعية، وهو يصرخ باكيًا: “جاموستي ماتت، وسالفت فلوس حق الفاصوليا ومش قادر أسدد”.
جملة واحدة تختصر ما حدث: خسارة البيت والماشية والمحصول، وبقاء الديون عبئًا لا يزول.

المياه تحاصر البيوت

في قرية “دلهمو” التابعة لمركز أشمون، جلس محمود علي فوق سطح منزله الغارق يروي قصته. قال إن المياه حاصرت البيت من كل جانب، وإنه اضطر لحمل ابنته الصغيرة على كتفه والخروج بها باكيًا، بينما زوجته وأطفاله الآخرون ظلوا محبوسين حتى جاءت المراكب لإنقاذهم.
وفي أشمون، وقف الحاج عبد الحميد عبد ربه، المزارع الستيني، أمام أرضه الغارقة يحدّق فيها بصمت. بعد دقائق قال: “محصول الذرة اللي كنت معتمد عليه السنة دي انتهى.. مش عارف أعيش إزاي من غير دخل”.
أما في مدينة منوف، فكانت أم محمود السيد تتنقل بمركب صغير إلى السوق لتجلب احتياجاتها ثم تعود إلى بيتها المحاصر بالمياه. تحكي أن أبناءها لم يعودوا قادرين على الذهاب إلى المدرسة بانتظام، وأن حياتها اليومية تحولت إلى رحلة شاقة بين الماء والمركب.
هذه الشهادات تكشف الجانب الأكثر قسوة في الكارثة: مواطنون بسطاء فقدوا كل شيء في ساعات، ولم يجدوا أمامهم سوى تحذيرات رسمية متأخرة، بلا بدائل عملية.

الدولة تصل متأخرة

وسط هذه الأجواء، وصل اللواء إبراهيم أبو ليمون، محافظ المنوفية، إلى المواقع المتضررة ليتفقد الجسر المؤدي إلى جزيرة أبوداوود.
استمع المحافظ إلى شكاوى الأهالي ووجّه بتعلية الجسر وتزويده بالإنارة وحصر الأراضي المتضررة لإعفائها من الإيجار السنوي، مؤكّدًا أن “الدولة لن تترك مواطنًا دون دعم”.
لكن الأهالي الذين خسروا بيوتهم وأراضيهم تساءلوا بمرارة: أين كانت الدولة قبل أن نغرق؟
المياه تدمر 1124 فدانًا
أعلنت الوحدات المحلية بمحافظة المنوفية أن مياه النيل غمرت نحو 1124 فدانًا من أراضي طرح النهر في أربعة مراكز: أشمون، منوف، السادات، والشهداء.

تحذيرات بلا بدائل

قبل أيام من الكارثة، أصدرت رئاسة مركز ومدينة أشمون بيانًا طالبت فيه جميع المواطنين المقيمين على أراضي طرح النهر بسرعة الإخلاء، محذّرة من ارتفاع منسوب المياه. وفي المنيا أيضًا وجّه المحافظ بضرورة إخلاء المناطق المهددة.
غير أن التحذيرات لم تُترجم إلى خطط إجلاء فعلية: لم توفر الحكومة أماكن بديلة للسكن، ولم تُعرض تعويضات عاجلة، ولم تُنظَّم وسائل نقل آمنة، بل تُرك المواطنون يواجهون الخطر وحدهم، وكأن التحذير في حد ذاته يكفي لحمايتهم، وفق ما ردد منتقدون على منصات التواصل الاجتماعي.

رئيس الوزراء يحمّل الأهالي المسؤولية

خلال مؤتمر صحفي بالعاصمة الإدارية، قال رئيس الوزراء د. مصطفى مدبولي إن ما حدث أمر متوقع، مؤكّدًا أن التصريف المائي في أكتوبر سيتجاوز المعدلات المتوسطة. وأضاف أن أراضي طرح النهر “جزء من مجرى النيل”، وأن المواطنين الذين يزرعونها أو يقيمون عليها “متعدّون”.
تصريحات مدبولي أثارت جدلًا واسعًا، إذ اعتبر ناشطون أنه تجاهل حقيقة أن هذه الأراضي كانت طوال عقود مصدر رزق لعشرات الآلاف، وأن الدولة سمحت باستخدامها من دون أن توفر بدائل آمنة.

إثيوبيا صنعت “فيضانًا مفتعلًا”

وزير الموارد المائية والري، د. هاني سويلم، ألقى باللوم على إثيوبيا، معتبرًا أن تصرفاتها الأحادية في تشغيل سد النهضة تسببت في “فيضان صناعي” غيّر مواعيد الفيضان الطبيعي وألحق أضرارًا بدولتي المصب.
وأوضحت الوزارة في بيان أن إثيوبيا خزّنت كميات مياه أكبر من المعتاد خلال يوليو وأغسطس، ثم أفرجت عنها فجأة في سبتمبر أثناء ما سمته “احتفال افتتاح السد”، ما أدى إلى تصريفات بلغت 780 مليون متر مكعب في يوم واحد.
ووصفت الوزارة هذه الإجراءات بأنها “استعراض سياسي على حساب حياة الشعوب”.

خبراء: الحكومة تتحمل المسؤولية

تحميل المسؤولية بالكامل لإثيوبيا لم يقنع خبراء المياه في مصر.
الدكتور نادر نور الدين، أستاذ الموارد المائية بجامعة القاهرة، كتب على فيسبوك: “فيضانات السودان كانت بسبب سوء إدارة سد النهضة وفتح بوابات أكثر من طاقة النهر والسدود. لكن في مصر الأمر مختلف: لدينا السد العالي ومفيض توشكى بعشر بوابات وقدرات تصريف هائلة. إذا كان المفيض يعمل بكفاءة، فلماذا لم نصرف المياه مبكرًا وبكميات صغيرة؟ لماذا تركنا المياه ترتفع فجأة وتغرق أراضي طرح النهر؟”
وأضاف أن المياه القادمة من الهضبة الإثيوبية تستغرق أسبوعين للوصول إلى السد العالي، ما يعني أن وزارة الري كانت تملك وقتًا للتصرف. وتابع: “ما نراه الآن لم يحدث حتى في فيضان 1988 الشهير، الذي استمر سبع سنوات متتالية، وقتها أدارت وزارة الري الأزمة بكفاءة عالية ولم يشعر الناس بخطر. أما اليوم، مع وجود سد إثيوبي يحجز جزءًا كبيرًا من المياه، نجد أن أراضي الفلاحين تغرق وكأننا بلا خطط”.
وفي منشور آخر، انتقد نور الدين بيانات وزارة الري نفسها، قائلاً إنها ذكرت أن روافد النيل ثلاثة فقط (الأزرق والأبيض وعطبرة)، بينما الصحيح أنها أربعة، بينها نهر السوباط الذي يتساوى في تدفقاته مع عطبرة. وعلّق: “إذا كانت وزارة الري لا تذكر حتى روافد النيل بدقة، فكيف نطمئن إلى إدارتها الدقيقة لمياه النهر ولفيضاناته؟”

البرلمان يتحرك

بعد تفاقم الأزمة، تقدمت النائبة أمل سلامة بطلب إحاطة عاجل لرئيس مجلس النواب، موجّهة أسئلة للحكومة عن مدى جاهزيتها لمواجهة ارتفاع منسوب النيل، وعن خطط إعادة تسكين الأسر المتضررة.
وتساءلت النائبة عن حجم التنسيق بين الوزارات والمحافظات، وعن التدابير العاجلة لحماية النساء والأطفال الذين أُجبروا على مغادرة منازلهم.

أراضي طرح النهر بين الخطر والرزق

أراضي طرح النهر هي الأراضي التي يتركها النيل خلفه بعد انحسار مياهه.
تاريخيًا، استغلها الفلاحون لخصوبتها العالية، رغم علمهم بأنها معرضة دومًا للغمر.
في أوقات الفيضان كانت تمثل خطرًا، لكن في سنوات الجفاف صارت مصدر رزق لا غنى عنه.
الحكومات المصرية المتعاقبة لم تضع سياسة واضحة للتعامل مع هذه الأراضي: أحيانًا سمحت بزراعتها بل وأجّرتها، وأحيانًا اعتبرتها تعديًا.
ومع غياب التخطيط، وجد آلاف الفلاحين أنفسهم عالقين بين إغراء الأرض الخصبة وخطر الفيضان المفاجئ.
أضف تعليقك