مشهد بات معتادًا في مصر، لاسيما في القرى، أن يذهب مريض فيجد أبوابها مفتوحة لكن طبيب العيادة غير متواجد، أو الأدوية ناقصة ويجب الحصول عليها بسعر مرتفع من صيدليات خارج المركز الصحي، فتزداد المعاناة ضعفين بسبب الألم وقلة الدخل وغياب الخدمة الطبية.
واقع كارثي
هذه التفاصيل عادت مجددًا عبر صرخة مواطن أشعلت مواقع التواصل الاجتماعي في مصر، عقب تداول مقطع فيديو يفضح غياب الخدمات الصحية وتضرر المواطنين وخلو المركز الصحي من أي موظف أو طبيب.
ووجه المواطن صاحب الشكوى الذي كان ينتظر الحصول على عبوات لبن لطفله استغاثة لوزير الصحة الدكتور خالد عبد الغفار، وقال: “آدى يا سيادة وزير الصحة جايين ناخد اللبن بتاع الواد الساعة 1.30، مفيش ولا حد في العيادة ولا حد في الوحدة الصحية، كله مفيش، الوحدة الصحية مفتوحة ومفيهاش ولا مخلوق”.
وجاءت التعليقات لتؤكد أنها أزمة متكررة في محافظات أخرى، وقابل البعض ذلك الغياب بسخرية تربط بين الأهمال الذي أدى لسرقة سوار فرعوني ذهبي من المتحف المصري قبل أيام.
وقال “عبد العزيز نادي الشهاب” عبر منصة إكس: “عندنا في الفيوم بيقفلوا الوحدة الصحية بجنزير، آه والله، تروح تلاقيها مقفولة وترجع تاني وتضطر تروح مستشفى خاص”.
وسخر آدم مراد قائلًا: “تلاقيهم في النفق اللي جوة معمل التحاليل بيطلعوا آثار”، وقال عبدالمنعم المسيري: “معظم الوحدات الصحية على هذا الحال بدون رقابة”.
وبعد ضجة الواقعة بثلاثة أيام، ردت مديرية الصحة في قنا في بيان يوم 22 سبتمبر على ما يتم تداوله عبر منصات التواصل الاجتماعي حول غياب الأطباء وأعضاء هيئة التمريض عن العمل بالوحدة الصحية بقرية السلامية، مؤكدة انتظام سير العمل وتقديم الخدمات الطبية على مدار الساعة.
وأضاف البيان أنه “حول ما أثير بشأن غياب أحد الأطباء، أكدت المديرية أنه بتاريخ 19 سبتمبر الجاري تم رصد واقعة عدم تواجد أحد الأطباء النوبتجيين، وجرى اتخاذ الإجراءات القانونية بحقه، مع انتداب طبيب بديل اعتبارًا من 20 سبتمبر”، دون أن تكشف سبب غياب الموظفين أو عدم تواجد أي عامل داخل المركز الصحي.
معاناة المواطنين
لا يقتصر الأمر على صعيد مصر الذي يشتكي منذ سنوات من قلة الخدمات الصحية، بل يتواجد في القاهرة أيضًا، وانتشر مقطع فيديو عبر مواقع التواصل الاجتماعي لمواطن في 10 سبتمبر الجاري يستغيث من غياب الأطباء بمستشفى الأردني في عين شمس.
وقال المواطن صاحب الشكوى: “طيب إحنا متواجدين دلوقتي من الساعة 8 في المستشفى، مفيش ولا دكتور خاص بالأشعة ومافيش حد عايز يبلغني إذا كان في دكتور، المستشفى فاضية، مفيش أي حد حاليًا، كان ناقص نكشف إحنا على نفسنا”.
ويبدو أن هذا الحال ليس مجرد شكوى من مواطن، لكن يؤكده مسؤولون في محافظات عدة، إذ تفقد الدكتور ياسر السيسي، مدير الرعاية الأساسية بمديرية الصحة بالبحيرة، مطلع سبتمبر الجاري وحدة عزب بسنتواي في المحمودية وجرى رصد غياب بعض أعضاء الفريق الطبي المناوب، وأحال الواقعة للتحقيق وطالب بتوفير بدائل للمتغيبيين، بحسب وسائل إعلام مصرية.
جذور الأزمة
ولهذه الأزمة جذور، تتعلق أغلبها بنقص الكوادر الطبية، من أطباء وممرضين، أو هروب الكوادر إلى القطاع الخاص أو المستشفيات بالخارج.
وقال أمين صندوق النقابة العامة للأطباء، أبو بكر القاضي، لشبكة سي إن إن الأمريكية إن عدد أعضاء النقابة يصل إلى حوالي 260 ألفًا، يعمل ما بين 110 إلى 120 ألفًا منهم في مصر، أي أن أكثر من 50% من الأطباء المصريين خارج المنظومة الصحية المصرية، ما بين طبيب حر ومستقيل من وزارة الصحة وما بين أطباء هاجروا للخارج.
وتضاعفت أعداد الأطباء المتقدمين باستقالتهم للنقابة بمقدار 4 مرات، من 1044 استقالة في عام 2016 إلى 4127 استقالة في عام 2021، واستمرت الزيادة لتصل إلى 7 آلاف استقالة عام 2023، بحسب تصريحات تلفزيونية لنقيب الأطباء أسامة عبد الحي.
واستبعد الطبيب محمد محيسن العودة لممارسة الطب في مصر في وقت قريب، بعدما كان من أوائل دفعته، وعمل كطبيب مقيم في أحد المستشفيات الحكومية في مصر لسبع سنوات قبل أن يسافر إلى بريطانيا لاستكمال دراسته العليا في عام 2016، ثم قرر الاستقرار ومواصلة عمله هناك، بحسب ما يذكر لـ”بي بي سي” البريطانية قبل أشهر، لافتًا إلى أن “ظروف العمل في مصر صعبة وطاردة وسيئة للغاية، بخلاف التعرض لاعتداءات متكررة”.
وتدعو دراسة حديثة في توصيتها الحكومة إلى أهمية أن تحتلّ مسألة رفع الأجور في القطاع الصحي العام لتتلاءم مع الحد الأدنى الفعلي لتكاليف المعيشة، وتوفير منح دراسية وضمانات واضحة لمسارات الترقي المهني، وزيادة ميزانية الصحة، ووضع بروتوكولات واضحة لحماية الأطباء من العنف والإرهاق.
تهميش كبير
ولحين حل أزمة هجرة الأطباء، يبقى غياب الخدمات على الفئات الفقيرة وكبار السن والأطفال ذات تأثير ملموس، إذ يشير تقرير حديث لمنظمة الصحة العالمية إلى أن أوجه عدم المساواة الصحية داخل البلدان آخذة في الاتساع في كثير من الأحيان. في البلدان النامية، والتي تعد منها مصر، يشير ذلك إلى أن من يملك المال يملك إنقاذ صحته، بينما الفئات الضعيفة تبدو تحت ضغوط معيشية وظروف مهددة للصحة.
ويؤكد تقرير لمركز كارنيغي للشرق الأوسط أن سكان المناطق الحدودية المصرية يعتبرون أن مستوى الرعاية الصحية لديهم أدنى مما هو عليه لدى سكان مدن وادي النيل، مطالبًا الحكومة بتوفير فرص تدريبية للأطباء من أجل حثهم على العمل في المناطق الحدودية.
ووفقًا لتقرير التنمية البشرية في مصر 2021 الذي أعدته وزارة التخطيط بالتعاون مع البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة، فإن نحو 60 بالمائة من موازنة الصحة يوجه إلى الإنفاق على أجور وتعويضات العاملين ودعم ومزايا اجتماعية، ويمثل شراء السلع والخدمات ما يقرب من خمس موازنة قطاع الصحة.
ورغم محاولات المبادرات الرئاسية لتخفيف واقع الأزمة الصحية، ومنها مبادرة الـ100 مليون صحة في ظل أزمات الوحدات الصحية، إلا أن كلاهما لم يحدث فارقًا ملموسًا في حياة المواطنين، إذ لا تزال الشكاوى تتواصل والمعاناة تزداد.
ففي أثناء زيارة وزير الصحة خالد عبد الغفار في 8 سبتمبر الجاري لمستشفى أبو تشت في محافظة قنا، راج مقطع فيديو يشتكي فيه مواطن من عدم وجود رعاية صحية وظل يصرخ: “خلينا صرحاء، مفيش لا حقن ولا علاج”، بينما الوزير يستمع إليه ولا يعقب أو يقدم حلًا.