فارقت الإعلامية عبير الأباصيري الحياة، منذ أيام، بعد أن انتظرت 6 ساعات في مستشفى الهرم لتلقي العلاج حيث لم تتأكد المستشفى من كون الراحلة تملك تأمين صحي بالفعل وأنها تابعة للتليفزيون المصري أم لا، بحسب رواية لصديقة لها، ما عرضها للتأخر في تلقي الخدمة العلاجية المطلوبة، ووفاتها بشكل مؤسف في النهاية.
ورغم تصريحات وزير الصحة بأن الحالة تم التعامل معها مجانا وتقديم الخدمة لها، ولكنها عجزت عن دفع 1400 جنيه قيمة الأشعة، فإن الواقعة تكشف عن واقع مؤلم يعيشه المصريون يوميا، حين يتعلق الأمر بصحتهم والحق في العلاج.
مثلت حالة “الأباصيري” نموذجا للجدل الدائم الذي يدور بين تحميل المسؤولية للحكومة والنفي، لكن الواقع يعكس مشكلات أكبر من أن تقوم حكومة أو وزير بنفيها.
لم تكن وفاة الإعلامية عبير الأباصيري حادثة فردية عابرة، لقد |أحدثت صدمة أيقظت الرأي العام وكشفت مجدداً عن الواقع المرير الذي يكشف عن فجوة هائلة بين نسبة عدد السكان مقارنة بعدد الأسرة المتاح للعلاج المجاني، وبين سعي الدولة لخصخصة جزء كبير من القطاع الصحي، لا يجد عدد هائل من المصريين الخدمة الطبية اللائقة به.
تناقضات السياسات: العلاج حق أم امتياز؟
في الوقت الذي تنص فيه المادة 18 من الدستور المصري على أن “لكل مواطن الحق في الصحة وفي الرعاية الصحية المتكاملة”، تشهد المستشفيات الحكومية تراجعاً متزايداً في قدرتها على توفير هذه الرعاية. هذا التراجع ليس وليد الصدفة، بل هو نتاج قرارات رسمية، أبرزها قرار وزير الصحة الحالي بتقليص نسبة الأسرّة المخصصة للعلاج المجاني من 60% إلى 25% من إجمالي عدد الأسرّة. هذا القرار، الذي يمثل خصماً من حق الفقير في العلاج، جاء في ظل تراجع فعلي في عدد الأسرّة بالمستشفيات الحكومية من 97.8 ألف سرير في عام 2014 إلى 88.6 ألف سرير في عام 2020، مما يزيد الضغط على النظام الصحي المترنح.
وتتفاقم هذه المعضلة عندما نضع في الاعتبار الأوضاع الاقتصادية للمواطنين. فمع بلوغ نسبة الفقر في مصر 35.5% وفقاً لتقديرات رسمية، تبدو نسبة 25% من الأسرّة المتاحة للعلاج المجاني غير كافية على الإطلاق، وهو تناقض صارخ بين حجم المشكلة والحلول المقترحة. هذا الواقع يدفع ملايين المواطنين إلى الاختيار الصعب بين “جيبك أو حياتك” في حالات الطوارئ.
خصخصة القطاع الصحي: منطق الربح بدلاً من الخدمة
يُضاف إلى ذلك قانون جديد صدر في عام 2024 يسمح للقطاع الخاص بإدارة المستشفيات الحكومية أو تأجيرها، وهو ما يثير مخاوف جدية حول خصخصة تدريجية قد تعرّض حق الوصول إلى الخدمات الصحية للخطر، خصوصاً للفئات التي لا تمتلك تأميناً صحياً.
ويعكس هذا التوجه فلسفة قائمة على اعتبار أن الخدمات العامة ليست مجانية، بل يجب أن تُدار بمنطق ربحي، وهو المنطق الذي رسخته الدولة منذ اليوم الأول حينما قال الرئيس السيسي في 2013، حين كان وزيرا للدفاع “مفيش ببلاش خلاص” إضافة إلى تصريحاته في أكثر من مناسبة بأن خطأ الأنظمة التي سبقته أنها “خافت من رد الفعل الشعبي فلم تجرؤ على اللعب في أسعار الخدمات لسنوات طويلة” فوجه حكومته منذ اليوم الأول إلى التعامل بمنطق آخر يحرر الأسعار، ولكن ماذا يفعل المواطن إذا كان يواجه هذه السياسة بعملة تنخفض قيمتها يوميا ورواتب منخفضة للغاية ومستوى معيشي لا يملك القدرة على شراء هذه الخدمات؟
وتُظهر الأرقام أن الأسر المصرية تتحمل أكثر من 60% من مصاريف العلاج مباشرة من جيوبها، بينما لا تغطي الدولة سوى حوالي 37% فقط من النفقات الصحية.
كما أن المرضى يقعون في فخ قوائم الانتظار الطويلة ونقص الأدوية، وهو ما أكده وزير الصحة بنفسه بقوله إن انتظار أسرّة الرعاية المركزة قد يصل إلى 9 ساعات في بعض المحافظات، وتتحول الطوارئ إلى عناية مركزة. هذه المعاناة اليومية، كما وصفها أحد المرضى، تجعل من العلاج رحلة مرهقة تزيد من وهن المريض بدلاً من شفائه.
صحة المصريين في مهب الريح
في مواجهة هذه التحديات، تظل منظومة التأمين الصحي الشامل هي الأمل الذي تلوح به الدولة، رغم أن الحكومة تنفذه ببطء شديد، فقد كان من المفترض وفق إعلان الحكومة أن تغطي المنظومة مصر كلها خلال 15 عاما. إلا أن التطبيق الفعلي للمنظومة يواجه تحديات ضخمة في التمويل والتنفيذ، مما أدى إلى تأجيل المراحل التالية من المشروع أكثر من مرة.
ويرى الخبراء أن الحل يتمثل في عدة نقاط: ضرورة تحسين جودة الخدمات الصحية المقدمة، وضمان توفرها بشكل شامل وعادل، وزيادة الإنفاق على الصحة لتحسين البنية التحتية للخدمات الصحية، وتوفير التكنولوجيا والمعلومات الصحية، وزيادة الاستشارات الطبية، وتعزيز التمويل الصحي، وضمان وصول جميع شرائح المجتمع للتأمين الصحي، بما في ذلك الفئات الأكثر احتياجًا.