المصريون تحت عجلات القطار و”الوزير” يأمن العقاب!  

كانت أجساد المصريين تتفتت تحت عجلات القطار السبت الماضي، بينما رفض السيد كامل الوزير تحمل مسؤوليته السياسية مجددا، رغم كل حوادث نزف الطرق والسكك الحديدية في عهده، وهو الوزير الذي تسلم مهامه بعد استقالة سلفه الذي حملته القيادة السياسية حينها مسؤولية حادث قطار محطة رمسيس عام 2019.

تعهد السيد كامل الوزير بإصلاح مرفق النقل فور تسلمه منصبه، ومدعوما بمظلة حماية رئاسية امتدت له منذ كان رئيسا للهيئة الهندسية للقوات المسلحة، اقترضت وزارة النقل مليارات الدولارات لتطوير السكك الحديدة والطرق، لذلك بعد حادث قطار مطروح أمس الأول، يعود التساؤل “أين تذهب مليارات الدولارات لتطوير النقل؟”، يكتسب السؤال أبعاداً جديدة مع كامل الوزير. فبينما كان وزراء سابقون يغادرون مناصبهم بعد حادث واحد، يستمر كامل الوزير في منصبه رغم سلسلة طويلة من الكوارث، آخرها حادث انحراف قطار مطروح الذي أسفر عن ثلاثة قتلى و103 مصابين. حادثٌ كشف مجدداً عن أزمة متكررة في قطاع النقل تبدو أعمق من مجرد خطأ بشري، كما يصر معالي الوزير في تفسيره لنزيف دماء المصريين.

ماذا تقول الإحصائيات؟

تشير إحصائيات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء إلى انخفاض في معدل حوادث القطارات منذ عام 2018 (2044) حادث، إلى (1470) حادثا في عام 2024، لكن النسبة لا تزال غير مقبولة، وتضع مصر في واحدة من أقل الدول سلامة في قطاع النقل عبر السكك الحديدية.

إذ لا يزال معدل وفيات المواطنين هو 7 لكل 100 مصاب في حوادث السكك الحديدة في مصر لعام 2024، وهو رقم كبير دون شك، يعكس شدة حوادث القطارات المميتة في مصر، ورغم الإعلان عن انخفاض حوادث القطارات بنسبة 78.2% في عام 2023، إلا أن الخبراء يشككون في دقة هذه الأرقام، خاصة مع وجود تضارب واضح في الإحصائيات الرسمية المنشورة

مقارنة صادمة بالمعايير العالمية

تكشف المقارنات الدولية عن الفجوة الهائلة في معايير السلامة. ففي حين يسجل الاتحاد الأوروبي معدل 0.09 وفاة لكل مليار كيلومتر من رحلات أي قطار، أي أقل 28 مرة من ركاب السيارات، تشهد مصر حوادث جدية تزيد بحوالي 5 أضعاف عن السكك الحديدية الأوروبية، و7 أضعاف بريطانيا، و20 ضعفاً عن اليابان.

وبحسب تقرير البنك الدولي حول مشروع تطوير السكك الحديدية المصرية المنشور في سبتمبر 2020، فإن تقادم وتدهور البنية التحتية للسكك الحديدية وضعف ثقافة السلامة والأمان يؤديان إلى حوادث قطارات متكررة وتأخيرات.

أين تذهب المليارات؟

الحقيقة المؤلمة أن معظم هذه المليارات لا تصل إلى التطوير الحقيقي. تخيل أنك تحصل على قرض لشراء سيارة جديدة، لكنك تنفق معظم المال على سداد فوائد قروض قديمة، فتبقى تقود السيارة المتهالكة نفسها! هذا بالضبط ما يحدث مع السكك الحديدية المصرية، حيث تكشف التحقيقات أن خدمة الدين فاقت الإنفاق الفعلي على تطوير هيئة السكك الحديدية في السنوات الأخيرة.

أشرف رسلان، الرئيس الأسبق لهيئة السكك الحديدية، يكشف في تصريحات صحفية الصورة كاملة: الديون المتراكمة وصلت إلى 70 مليار جنيه! والأغرب أن جزءاً كبيراً من هذا المبلغ الفلكي عبارة عن فوائد على قروض من التسعينيات كانت قيمتها الأصلية 10 مليارات جنيه فقط، لكن الفوائد المتراكمة عليها عبر السنين جعلتها تتضاعف عدة مرات.

تتكرر هذه المآسي، بينما تغرق البلاد في قروض خارجية أيضا بمليارات الدولارات باسم “تطوير السكك الحديدية”. ففي عهد الوزير كامل الوزير، وافقت الحكومة على قروض ضخمة، مثل قرض البنك الدولي بـ440 مليون دولار لتحسين السلامة، وآخر بـ400 مليون دولار لإنشاء محور لوجستي، وقروض أوروبية وكورية بـ221 و145 و35 و251 مليون يورو أو دولار. أموالٌ تُستدان من أجل تحسين الخدمة وتحديث الإشارات، لكن النتائج على الأرض تقول عكس ذلك.

مشاكل في كل مكان

المشكلة لا تقف عند الأموال فحسب، بل تمتد لتشمل أساسيات السلامة. تخيل أن لديك 4500 مزلقان في البلد، لكن الحكومة طورت 1332 منها فقط! هذا يعني أن أكثر من ثلثي المزلقانات لا تزال تعمل بأنظمة عتيقة من زمان أجدادنا، وهو ما يؤكده الأكاديمي حمدي عرفة كسبب رئيسي في استمرار الحوادث.

والوضع يزداد تعقيداً عندما تعلم أن منظومة السلامة كلها تعاني من مشاكل متراكمة. لا يوجد نظام إدارة سلامة حديثة، فمعظم الإجراءات تعتمد على البشر بدلاً من التكنولوجيا المتطورة. والأسوأ من ذلك أن هناك تضارباً في أنظمة الإشارات، فتجد إشارات قديمة يشرف عليها عمال التحويلة، وأخرى جديدة إلكترونية في نفس الخط، مما يربك السائقين. أضف إلى ذلك ضعف الاستثمار في تدريب العاملين، وانعدام الشفافية في الأرقام الرسمية، فتحصل على وصفة مثالية للكوارث.

تحديات على كافة المستويات

المشكلة متشعبة ومعقدة. على مستوى التشغيل، لا نزال نعتمد في مصر على الأنظمة اليدوية في العمليات الخطيرة، بينما العالم كله تحول للأنظمة الآلية المتقدمة. وعلى المستوى المؤسسي، لا توجد هيئة مستقلة للسلامة تتبع السكك الحديدية لها صلاحيات حقيقية، وآليات المساءلة ضعيفة جداً. أما مالياً، فالتركيز كله على المشاريع الجديدة اللامعة مثل القطار السريع، والمونوريل الذي يربط العاصمة الإدارية الجديدة الفارغة تقريبا من السكان بالقاهرة المزدحمة، بينما الخطوط العادية التي تربط الصعيد والدلتا بالعاصمة والإسكندرية، وهي التي يستخدمها ملايين المواطنين يومياً تعاني من الإهمال التام.

ما يقوله الخبراء

خبراء النقل واضحون في رسالتهم: المزيد من القروض ليس هو الحل! المطلوب إصلاحات جذرية تبدأ بإنشاء هيئة مستقلة للسلامة لها أسنان حقيقية تحاسب المقصرين، وتحديث شامل لأنظمة الإشارات مع إلغاء التضارب الموجود حالياً. كما نحتاج لتطوير البنية التحتية وفق المعايير العالمية، خاصة المزلقانات الخطيرة، وضرورة الشفافية الكاملة في الأرقام، وبناء ثقافة سلامة حقيقية في كل مستويات العمل.

أين اختفت تقارير لجان التقصي؟

منذ حادث قطار رمسيس، لم تصدر تقارير علنية فنية عن كل لجان تقصي الحقائق المشكلة، وغالبا ما يستبق كامل الوزير هذه التقارير للخروج من المأزق بالإشارة إلى “العنصر البشري”، باعتباره هو المسؤول عن الحوادث المتكررة، فماذا عن المسائلة السياسية؟ هل نسأل العنصر البشري أيضا؟ الحقيقة أنّ العنصر البشري أمر خاص داخلي لا علاقة للمواطن به، المواطن لا يرى سوى “العنصر الحكومي” المسؤول عن غياب المساءلة، سواء كان سائقاً غير مؤهل أو قضباناً متهالكة.

ومنذ توليه المنصب في 2019، لم تكن وزارة النقل تحت قيادة الوزير كامل الوزير بمنأى عن نزيف حوادث القطارات. فقد شهدت البلاد في عهده سلسلة من الحوادث المأساوية، أبرزها تصادم قطارين في سوهاج في مارس 2021 الذي خلف 32 قتيلاً، وحادث طوخ في أبريل من العام نفسه الذي أودى بحياة 11 شخصاً على الأقل. ورغم أن حوادث أخرى وقعت لاحقاً، مثل حادث قليوب في 2023 وحادث الزقازيق في 2024 وحادث المنيا في أكتوبر 2024، فإنها جميعاً تروي قصة فشل متكرر في منظومة يفترض أنها شهدت استثمارات ضخمة.

إن المقارنة مع الماضي تكشف عن معايير مزدوجة في التعامل مع هذه الأزمات. ففي فبراير 2019، أقيل وزير النقل الأسبق هشام عرفات بسبب حادث محطة مصر الذي خلف 22 قتيلاً. وقبل ذلك بسنوات، وبالتحديد في 2009، قدم الوزير محمد منصور استقالته بعد حادث قطار العياط الذي أسفر عن 18 قتيلاً. هذا التباين في المحاسبة يثير تساؤلات حول السبب الحقيقي وراء حصانة كامل الوزير. هل لأنه شخصية عسكرية؟

البرلمان يحاسب أم يبرر الكوارث؟

كم مرة تم استدعاء كامل الوزير في البرلمان للمسائلة السياسية والقانونية تجاه تلك الحوادث؟؟ يبدو الرجل في مأمن من الحساب منذ خرج بعد حادث “بنات المنوفية” الذي ودعت مصر فيه 18 فتاة في عمر الزهور، ليتحدى الجميع قائلا “أقول لكل اللي عايزني أمشي.. انا مش ماشي”.. فمن يتحدى كامل الوزير؟

لقد كشفت أزمة القطارات عن غياب الرقابة والمساءلة السياسية التي من المفترض أن يقوم بها البرلمان. ففي أي دولة ديمقراطية، يكون البرلمان هو صوت الشعب، ويملك سلطة استدعاء ومحاسبة الوزراء. لكن الحالة البرلمانية في مصر ضعيفة للغاية. فبدلاً من أن يكون البرلمان ساحة حقيقية للمساءلة، تحول إلى أداة لتبرير أخطاء الحكومة وتجاهل معاناة المواطنين.

سؤال مصيري

مصر تملك ثاني أقدم شبكة سكك حديدية في العالم بطول 9570 كيلومتراً و705 محطة، وتنقل 500 مليون راكب سنوياً. هذا إرث عظيم وشريان حيوي للبلد، لكنه يحتاج إصلاحاً جذرياً يتجاوز مجرد ضخ الأموال إلى التطبيق الفعلي لمعايير السلامة العالمية.

السؤال البسيط والمباشر: هل ستنجح الحكومة في تحويل هذه المليارات إلى سلامة حقيقية للركاب، أم ستبقى قطاراتنا مثالاً حياً على كيف يمكن أن تتعايش الاستثمارات الضخمة مع الحوادث المستمرة؟ الإجابة ستحددها الأيام القادمة، لكن أرواح المواطنين لا تحتمل مزيداً من الانتظار.

 

 

أضف تعليقك
شارك