المصريون بالخارج: مواطنون عند الحاجة فقط؟

 
في كل مناسبة رسمية تتعلق بالمصريين بالخارج، لا تخلو الكلمات من عبارات التقدير والامتنان.
 
وفي مؤتمر وزارة الخارجية الذي عُقد في 3 أغسطس 2025، بالتزامن مع انتخابات مجلس الشيوخ، أكد وزير الخارجية بدر عبد العاطي أن الدولة “تضع مصالح المصريين بالخارج على رأس أولوياتها”. لكن هذا الخطاب، رغم تكراره، لا يصمد أمام واقع يومي يعيشه المغتربون، يتسم بالتجاهل حين يتعلق الأمر بحقوقهم، وبالاستدعاء المفاجئ حين يتعلق الأمر بأموالهم.
 
فعلى مدار السنوات الماضية، أصبحت تحويلات المصريين بالخارج أحد أعمدة الاقتصاد المصري. وقد سجلت طفرة واضحة في الفترة من يوليو إلى مايو من العام المالي 2024/2025 حيث ارتفعت بمعدل 69.6% لتصل إلى نحو 32.8 مليار دولار (مقابل نحو 19.4 مليار دولار خلال نفس الفترة من العام السابق). بحسب البنك المركزي.
 
وفي ظل تراجع مصادر النقد الأجنبي الأخرى، تتكرر النداءات من المسؤولين والمصارف لتحفيز المغتربين على دعم الجنيه، وتحويل أموالهم عبر القنوات الرسمية، مقابل عروض حصرية: شهادات ادخار مرتفعة العائد، وحدات سكنية مميزة بالدولار، وامتيازات تروّج لها الدولة في خطابها الإعلامي.
 
لكن حين يحتاج هذا المواطن إلى أبسط الخدمات القنصلية، يجد نفسه أمام جدار من البيروقراطية وسوء المعاملة. يشكو كثيرون من تعقيد إجراءات توثيق الأوراق، والتأخير غير المبرر في إصدار الجوازات، وغياب قنوات تواصل فعّالة مع السفارات. فيبدو أن الامتيازات مرتبطة بقدر ما تملكه من دولارات، لا بما تحمله من جنسية.
 
وتزداد الأزمة تعقيدًا عندما يُنظر إلى المغترب كـ”رصيد متحرك”، لا كإنسان كامل المواطنة. من يمتلك الموارد، يُكرَّم ويُمنح التسهيلات، أما من لا يملك سوى تعبه أو يعبر عن رأي مخالف، فقد يُرفض تجديد أوراقه الثبوتية وجواز سفره، أو يُواجه بالتهميش، بل قد تمتد الإجراءات لتطال أفراد أسرته داخل مصر بالعقاب والملاحقة، في ظل تفسيرات أمنية فضفاضة.
 
وتبدو هذه المعاملة أكثر قسوة مع العمالة المصرية في الخليج، والتي تمثل الكتلة الأكبر من المغتربين (نحو 6 إلى 6.5 مليون شخص). فرغم أنهم يسهمون بأكثر من نصف التحويلات سنويًا، فإنهم يعانون من أنظمة كفالة تُقيّد حريتهم، وظروف عمل صعبة، وسكن غير إنساني، وغياب أي حماية دبلوماسية حقيقية.
 
لا نسمع عن تحرك رسمي إلا حين يُحدث حادث صدى واسعًا، وغالبًا ما تُقدّم “العلاقات مع الدول الشقيقة” كأولوية تفوق كرامة المواطن.
 
وعلى الجانب الآخر ربما تنبئك تجربة الدكتور عصام حجي ـ أحد أبرز العلماء المصريين في وكالة ناسا ـ عن حجم البيروقراطية واللامبالاة التي يواجهها المصريون بالخارج. فخلال محاولته إنهاء إجراءات دفن والدته في الولايات المتحدة، اصطدم برفض قنصلية مصر في لوس أنجلوس منحه توكيلًا قانونيًا بسيطًا، فقط لأن جواز سفره المصري منتهي الصلاحية. لم تُقدَّر حالته الطارئة، ولا وُجد استثناء إنساني يُمكّنه من وداع والدته بكرامة. لم يُسمح له حتى بمقابلة القنصل، بل طُلب منه إرسال بريد إلكتروني والانتظار، دون أي تفاعل رغم خطورة الموقف.
 
هذه الواقعة، التي رواها حجي بنفسه، لم تكن سياسية في ظاهرها، لكنها تسلط الضوء على نمط من التعامل الانتقائي مع أصحاب الآراء المستقلة أو المعارضة، خاصة من الشخصيات العامة. فعصام حجي سبق أن شغل منصب المستشار العلمي لرئاسة الجمهورية في فترة الرئيس المؤقت عدلي منصور، ثم جرد من حقوقه حينما عبّر لاحقًا عن مواقف نقدية تجاه السياسات الحكومية، وخاصة فضيحة ما عرف بجهاز العلاج بالكفتة الذي تبنته الهيئة الهندسية.
ما سبق يثير تساؤلات حول ما إذا كان هذا التعنت الإداري امتدادًا لسياسة تمييز غير معلنة ضد من يُصنَّفون خارج الخط الرسمي للحكومة.
 
والمفارقة أن هذه المعاملة طالت شخصية علمية خدمت مصر في الداخل والخارج،
فكيف يكون الحال مع مواطنٍ بسيطٍ بلا شهرة أو نفوذ؟
 
وبينما يكفل الدستور المصري حق المواطنين في التنقل واستخراج الوثائق دون تعقيد، يبدو أن الانتماء السياسي أو الحياد الفكري أصبحا معيارين غير معلنين في كيفية استقبال المصريين داخل بعثات بلادهم.
 
وبينما يتكرر خطاب الدولة ذاته: “أنتم السند”، “أنتم الأولوية”، تبقى الممارسة العملية بعيدة عن هذه العبارات. فلا السياسات تتغير، ولا المؤسسات تتحرك، ولا كرامة المواطن تُصان وقت الحاجة. وبين ما يُقال في المؤتمرات، وما يُعاش في القنصليات، فجوة تتسع، وثقة تتآكل.
 
إن أزمة الدولة مع المصريين بالخارج ليست في قلة الموارد، بل في غياب الرؤية. فالتعامل معهم بمنطق الجباية، لا المواطنة، يُفرغ العلاقة من معناها. وإذا كانت الدولة جادة في ما تقوله، فعليها أن تبدأ بتغيير جوهري في النظرة: من “المغترب الممول” إلى “المواطن الشريك”… لا بصفته منقذًا اقتصاديًا مؤقتًا، بل باعتباره إنسانًا له كرامة وحقوق لا تتجزأ.
 
 
أضف تعليقك