أمواج البحر تخطف أرواح الفارين من الفقر
فاجعة جديدة للمصريين يلفها الصمت الحكومي المطبق، صرخات غرقى ضحايا الهجرة غير النظامية لم يسمعها أحد إلا البحر.
استيقظ المصريون على كارثة إنسانية جديدة وقعت بمدينة طبرق الليبية، حيث تم العثور على جثث مهاجرين مصريين غير نظاميبن كانوا في طريقهم إلى أوروبا عبر البحر المتوسط.
ووفقًا للبيانات الرسمية لصفحة البحث والإنقاذ البحري التابع لأمن السواحل بطبرق الليبية ، تم التعرف على أكثر من 10 جثث من أصل 15، جميعهم من محافظات مصرية مختلفة، بينما تم إنقاذ 10 آخرين، ولا يزال نحو 50 في عداد المفقودين.
وقع الحادث قرب الحدود المصرية، قبالة شواطئ منطقة العقيلة الليبية، على بعد 25 كيلومترًا شرق طبرق، حيث غرق القارب نتيجة الحمولة الزائدة وسط أحوال جوية صعبة.
الوطن يضيق.. والموت يتوسع
هذه المأساة لم تكن الأولى، ولن تكون الأخيرة، في سلسلة طويلة من الكوارث التي حولت البحر المتوسط إلى مقبرة جماعية لمئات الشباب المصريين الذين ضاقت بهم سبل الحياة داخل وطنهم. فحادث طبرق يعكس ظاهرة آخذة في التصاعد خلال السنوات الأخيرة: الهجرة المصرية غير النظامية عبر البحر، مدفوعين بالفقر، واليأس، وانسداد الأفق.
أرقام كارثية
في السنوات الأخيرة، تصاعدت ظاهرة الهجرة غير الشرعية والكوارث الناتجة عنها بشكل لافت. وفقًا لتقارير المنظمة الدولية للهجرة، شهدت مصر بين عامي 2014 و2023 زيادة كبيرة في أعداد المهاجرين غير الشرعيين عبر المتوسط. ففي عام 2022 وحده، قُدر عدد المصريين الذين حاولوا العبور بنحو 21 ألف شخص، وهو أعلى رقم مسجل في تاريخ مصر الحديث، فيما تشير تقديرات غير رسمية إلى أن الأعداد الفعلية قد تكون أكبر بكثير.
الأخطر من الأرقام هو حجم الكارثة الإنسانية، حيث لقي مئات المصريين حتفهم في عرض البحر بسبب الغرق أو المعاملة القاسية من قبل شبكات التهريب. وكان عام 2023 من الأعوام الأشد فتكًا، مع تسجيل حوالي 8600 حالة وفاة أو اختفاء، نسبة كبيرة منها لمصريين. وفي النصف الأول من نفس العام، سجلت إيطاليا ارتفاعًا غير مسبوق في عدد المهاجرين القادمين من مصر، لتتصدر القائمة بنسبة تتجاوز 20%.
هذه الأرقام لا تعكس فقط اتساع الظاهرة، بل تكشف مدى انعدام البدائل داخل الوطن.
واقع قاتم
على الأرض، يواجه الشباب المصري واقعًا قاتمًا: البطالة تجاوزت 25% بين الشباب، والفقر طال أكثر من ثلث السكان، والتضخم التهم دخول الطبقتين الوسطى والفقيرة. في المقابل، تنشغل الدولة بمشاريع عملاقة ذات طابع استعراضي لا تخلق وظائف مستدامة، بينما تُهمل القرى والمناطق الحدودية، التي تشكّل بؤرًا رئيسية للهجرة. ومع انسداد الأفق السياسي والاجتماعي، وانعدام الحريات العامة، بات كثيرون يرون أن المغامرة بالحياة في البحر أهون من البقاء في وطن لا يمنحهم شيئًا.
الحل الأمني لا يقدم حلا!
رغم جسامة الظاهرة، ما زالت الحكومة تتعامل معها من زاوية أمنية بحتة. فمنذ عام 2016، أصدرت السلطات قوانين صارمة ضد شبكات التهريب، وشددت الرقابة على السواحل. هذا النهج أدى مبدئيًا إلى تراجع في معدلات الإبحار من الشواطئ المصرية، لكنه دفع المهاجرين إلى سلوك طرق أشد خطرًا عبر ليبيا أو السودان، حيث ترتفع نسب الوفيات والانتهاكات. ولم تبادر الحكومة إلى معالجة الأسباب الحقيقية للهجرة، مكتفية بالملاحقة والعقاب، وكأن المهاجرين اختاروا مصيرهم بإرادتهم.
الجانب الأكثر إثارة للقلق هو غياب الشفافية، فالدولة لا تعلن عن أعداد الضحايا أو المفقودين، ولا توفر بيانات دقيقة، ولا نتائج تحقيقات، ولا محاسبة للمقصرين. ففي مأساة مركب رشيد عام 2016، التي أودت بحياة أكثر من 200 شخص، اكتفت الدولة بعبارات الإدانة للمهربين، دون أي مساءلة حقيقية أو سياسات تمنع تكرار الكارثة. واليوم، بعد كل قارب يغرق أو جثث تكتشف، لا تزال البيانات الرسمية خجولة، والموقف الحكومي جامد.
بالإضافة لذلك فإن الحكومة فضلت إنفاق الدعم الذي تتلقاه من أوروبا للحد من الهجرة غير الشرعية بشكل يعكس رؤية أمنية كذلك، ففي مارس 2024، تلقت مصر دعمًا أوروبيًا بقيمة 7.4 مليار يورو، جزء منه مخصص للحد من الهجرة، وتم تخصيص هذه الأموال لتعزيز الرقابة الأمنية، وبناء مراكز احتجاز، وزيادة التنسيق الأمني مع أوروبا. هذا التوجه يعكس استمرار التركيز على الحلول الأمنية قصيرة المدى، دون معالجة الأسباب الجذرية التي تدفع الشباب إلى الهجرة.
مأساة الشباب المصري في قوارب الهجرة ليست قدرًا محتومًا، بل نتيجة مباشرة لسياسات اقتصادية واجتماعية فاشلة. وتجاهل الحكومة لجذور الأزمة وتفضيلها الحلول الأمنية والدعائية يفاقم المشكلة بدلًا من حلها، محولاً البحر المتوسط إلى مقبرة مفتوحة لأحلام شباب ضاقت بهم السبل في وطنهم.
أضف تعليقك