تشهد أسعار الأدوية في مصر ارتفاعًا ملحوظًا بالتزامن مع موجات التضخم التي يعاني منها المواطن البسيط، وفي خطوة جديدة تهدد ملايين المرضى الذين يعانون من أمراض مزمنة أُعلن عن ارتفاع أسعار بعض أدوية الأمراض المزمنة في مصر بنحو 300% خلال النصف الأول من 2025، ما جعل آلاف المرضى غير قادرين على توفير جرعاتهم اليومية، فبعض الأصناف التي كانت تُباع بـ30 جنيهًا أصبحت تُباع الآن بـ70 وأحيانًا بـ100 جنيه، وفي بعض الحالات لا تُباع من الأساس بسبب النقص في السوق.
الأزمة تتعلق بواقع مرير يعيشه ما يزيد عن 25 مليون مصري يعانون من أمراض مزمنة مثل السكري، ارتفاع ضغط الدم، أمراض القلب، الكبد، الكلى، والسرطان، حسب إحصائيات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء ومنظمة الصحة العالمية. هؤلاء المرضى لا يمكنهم إيقاف أدويتهم أو تأجيلها دون أن يضعوا صحتهم، وربما حياتهم، في خطر مباشر.
تحميل أزمة ارتفاع أسعار الأدوية على خلل منظومة التوزيع، وفق ادعاءات حكومية، هو محض تضليل وتجاهل للسبب الحقيقي، الذي يتمثل في التراجع الحاد لقيمة الجنيه المصري مقابل الدولار. فجميع مدخلات إنتاج الأدوية تقريبًا تُستورد من الخارج بالعملة الصعبة، بما في ذلك المواد الخام ومستلزمات التصنيع، ومع بيع الدواء في السوق المحلي بالجنيه، تتحول أرباح الشركات إلى خسائر. وبما أن نسبة الاعتماد على الإنتاج المحلي للمواد الخام لا تزال منخفضة، فإن الاقتصاد الدوائي في مصر يظل مرهونًا باستيراد مكلف، ما يجعل ارتفاع الأسعار نتيجة مباشرة لأزمة العملة وسوء إدارة الاقتصاد، أكثر من كونه نتيجة لخلل في التوزيع.
وقد أعلن عدد من شركات الأدوية أنها لا تزال تشتكي من تأخر الإفراج الجمركي عن المواد الخام، وهو ما أدى إلى نقص حاد في عدد كبير من الأصناف الحيوية داخل الصيدليات، وما يزيد الوضع سوءًا أن النقص لا يقتصر فقط على الأدوية المستوردة، بل يشمل أيضًا أدوية تُصنع محليًا لكنها تعتمد بشكل أساسي على خامات خارجية لم يتم الإفراج عنها.
لم يقتصر الأمر على زيادة السعر بل الطريقة التي يتم بها الأمر، فما يحدث الآن يُعد سابقة في التعامل مع تسعير الأدوية. فبدلًا من تلقي النقابة إخطارًا رسميًا من الحكومة بقرارات زيادة الأسعار ـ كما كان يحدث سابقًا ـ أصبحت الزيادات تتم بشكل مفاجئ، ويعلم بها الصيدلي فقط عند صرف الدواء من الشركة. هذا الغياب للإخطار الرسمي يخلق عشوائية في التسعير، ويضعف قدرة الصيدليات على الالتزام، ويفتح الباب أمام تحميل المرضى الفاتورة دون حماية قانونية واضحة، فقط لتُرفع الحرج عن الجهات الرسمية بأنها لم تُصدر “قرارًا” برفع الأسعار.
الأزمة فتحت بابًا واسعا للسوق السوداء للأدوية وتسعير الأدوية خارج من المنظومة الرسمية، في ظل غياب رقابة فعالة، أصبحت صحة المواطن تُدار بمنطق الندرة والواسطة، لا بمنطق الاستحقاق والرعاية الصحية.
الأزمة لا تقف فقط عند عتبة الأسعار، بل تمتد إلى قلب النظام الصحي نفسه، الذي لا يزال عاجزًا عن إدماج أدوية الأمراض المزمنة ضمن مظلة التأمين الصحي، رغم وعود طويلة الأمد بإصلاح المنظومة وتوسيع التغطية، فمريض الضغط أو السكري الذي يتقاضى معاشًا بسيطًا يجد نفسه مضطرًا للاختيار بين الطعام والدواء، أو بين شراء الدواء لنفسه أو لطفله المريض، وهي اختيارات لا يجب أن تُفرض على أي إنسان.. الحديث عن “العدالة الاجتماعية” و”الرعاية الصحية للجميع” يصبح بلا معنى عندما تكون أكثر الأدوية أساسية خارج متناول من يحتاجها يوميًا ليبقى على قيد الحياة.
ومع استمرار نقص العملة الصعبة، وتعقيد إجراءات الإفراج الجمركي، وغموض أولويات توزيع الدولار على القطاعات المختلفة، فإن الأزمة مرشحة للتفاقم خلال الشهور المقبلة. والمصريون اليوم وخاصة المرضى لا يريدون وعودًا إضافية، بل يحتاجون لعلبة دواء متوفرة في الصيدلية بسعر يستطيع دفعه، ليعيشوا بكرامة، ويحاربوا مرضهم دون أن يُهزموا في معركة الأسعار قبل المرض ذاته.
أضف تعليقك