الأرض مقابل البناء.. الدولة في بيتي

في خطوة جديدة تُعيد رسم العلاقة بين الدولة والمواطن في ملف ملكية الأرض، قررت هيئة المجتمعات العمرانية المصرية تعديل ضوابط التصالح على مخالفات البناء، عبر إلغاء الغرامات النقدية واستبدالها بتنازل عيني عن جزء من الأرض المخالفة لصالح الدولة. القرار، الذي طالما جرى التمهيد له باعتباره أداة لتقنين الأوضاع، يتضمن نسب اقتطاع تصل إلى 75% من الأراضي محل المخالفة، ويُطبق على المساحات التي تتجاوز 5 أفدنة، على أن تكون الحصة المطلوبة من الجزء الأكثر تميزًا في الأرض.
بحسب الوثيقة الرسمية التي حصلت عليها وسائل إعلام، بررت الهيئة هذا التعديل بالارتفاع المطرد في تكاليف توصيل المرافق العامة وتنفيذ شبكات التوزيع. وبدلاً من إتاحة بدائل نقدية أو تنظيم آليات دفع ميسّرة، فرض القرار صيغة واحدة للتصالح: التنازل المباشر والعيني لصالح الدولة، بلا تفاوض ولا خيارات.
المفارقة أن أغلب هذه الأراضي لا تقع في مناطق عشوائية أو مشروعات مخالفة بالكامل، بل في نطاقات عمرانية تشهد توسعًا رسميًا، مثل سفنكس الجديدة، و6 أكتوبر، وتوسعات زايد الجديدة. وهي مناطق كان من المفترض أن تحظى بسياسات تنظيم مدروسة، لا أن تُعامل بالمنطق العقابي الذي يُفقد المواطنين جزءًا من أصولهم.
في الثقافة المصرية، تمثّل الأرض أكثر من مجرد أصل عقاري؛ هي الضمانة الأخيرة للطبقة الوسطى، وركن الأمان للفلاحين والأسر الريفية. في مصر، قد يفرّط الناس في الذهب أو المال، لكن لا يفرّطون في قطعة الأرض التي توارثوها جيلاً بعد جيل. وهذا القرار يقفز فوق هذا التصور الثقافي العميق، ويحوّل ملكية الأرض إلى عبء على صاحبها، ما لم يرضخ ويمنح الدولة حصة “متميزة” منها دون مقابل.
المثير للتساؤل أن هذا التوجه يتناقض صراحة مع الخطاب الرسمي الذي طالما تشدد ضد البناء على الأراضي الزراعية. الرئيس عبد الفتاح السيسي تحدث في أكثر من مناسبة عن “انتهاء زمن البناء على الأرض الزراعية”، ووصف المخالفين بأنهم يهددون الأمن القومي، وأكد أن الدولة لن تتساهل مع أي تعدٍّ جديد. والآن، فجأة، لا يُمنع البناء المخالف فحسب، بل يُشرّع بأثر رجعي، بشرط أن يتنازل صاحبه عن نصيب فاحش من أرضه.
ويزداد التناقض وضوحًا حين نضع القرار في سياق المشاريع الزراعية الكبرى التي ترعاها الدولة، كمشروع “الدلتا الجديدة” ومزارع توشكى. ففي الوقت الذي تُضخ فيه المليارات لاستصلاح الأراضي الصحراوية، يتم السماح رسميًا بتحويل الأراضي الزراعية القديمة إلى عمران مقابل اقتطاع جزء منها، وهو ما يفقد المشروع التنموي تماسكه ويطرح علامات استفهام حول أولويات الدولة ومصداقية خطابها.
الأثر المباشر لهذا القرار سيكون قاسيًا على الطبقة الوسطى الريفية، التي تعتمد على الأرض كضمان اقتصادي واجتماعي. فبدلاً من دفع غرامة مالية، كما كان الحال في التصالح السابق، يُجبر المواطن الآن على التنازل عن ما يصل إلى ثلاثة أرباع ملكيته. والأسوأ أن الدولة تختار الجزء الأعلى قيمة من الأرض، دون مراعاة لموقع أو احتياج أو مستقبل.
لا يُنتزع من المواطن مجرد جزء من أرضه، بل يُنتزع الجزء الأغلى منها، في عملية أقرب إلى إعادة توزيع قسري للملكية بدون تعويض عادل أو سند قانوني منصف. ومع غياب أي بدائل مرنة أو آليات استئناف واضحة، يبدو أن هذا القرار يُغلق باب التفاوض ويفتح باب الاستياء الشعبي، لا سيما في المناطق التي تُعد خزانًا انتخابيًا واجتماعيًا حساسًا.
ما يجري اليوم لا يندرج في إطار تنظيم عمراني أو تقنين مخالفات، بل يعكس تحوّلًا جوهريًا في فلسفة الحكم: من شريك يدير الأراضي العامة إلى طرف يستحوذ على ما تبقى من أملاك خاصة، تحت غطاء “التوفيق”. والمحصلة أن المواطن البسيط، الذي كان يأمل في تسوية قانونية تحفظ ملكيته، يجد نفسه اليوم يدفع ثمنًا باهظًا – لا بالمال، بل بأرضه نفسها.
أضف تعليقك