نشر المعهد الإيطالي لدراسات السياسة الدولية مقالا عن قطاع الطاقة في مصر، ولأهميته ننشر ترجمته كاملة.
وسط أزمة اقتصادية عميقة، أصبح انقطاع التيار الكهربائي الذي شهدته مصر في الأشهر الأخيرة علامة واضحة على تلاشي وعود التنمية التي أطلقها الرئيس عبد الفتاح السيسي بعد ما يقرب من عشر سنوات من وصوله إلى السلطة. وفي الواقع، منذ منتصف يوليو 2023، أدت موجات الحر وزيادة استهلاك الكهرباء، إلى جانب الاختلالات المزمنة في قطاع الطاقة، إلى انقطاع التيار الكهربائي لفترة طويلة ومتكررة. وفي بعض المناطق، حدث انقطاع للتيار الكهربائي عدة مرات يوميًا واستمر لعدة ساعات، مما أدى إلى تعطيل الأنشطة الصناعية والحياة اليومية للمواطنين.
في سياق الانتخابات الرئاسية، فإن إلقاء نظرة فاحصة على قطاع الطاقة المصري خلال السنوات الماضية أمر بالغ الأهمية لسببين رئيسيين. أولاً، يساعد في تسليط الضوء على طموح البلاد للعمل كمركز إقليمي للطاقة وتنفيذ تحول في مجال الطاقة؛ ثانيًا، يسمح لنا بتقييم العقد الأخير من حكم السيسي وفهم ما قد تحمله الأشهر المقبلة للبلاد.
عودة أزمة الطاقة
إن انقطاع التيار الكهربائي الأيام الحالية هو بمثابة تذكير بأزمة الطاقة التي حدثت في مصر منذ حوالي عشر سنوات. في الواقع، بينما كانت نوبات انقطاع التيار الكهربائي متكررة أيضا في نهاية عهد حسني مبارك، فإنها أصبحت أكثر تواترا بعد ثورة 2011، وكان السبب فيها بالمقام الأول هو عدم كفاءة شبكة الكهرباء وعدم كفاية إنتاجها والافتقار المزمن إلى الاستثمار في الصيانة. بالإضافة إلى ذلك، أثر النقص في الغاز الطبيعي بسبب تناقص الإنتاج، وغياب عقود التنقيب الجديدة، وارتفاع الاستهلاك المحلي، على توليد الكهرباء. ومن هنا، ساهمت أزمة الطاقة في الفترة 2012-2013 في تحفيز الانتقادات والتبرم الشعبي من أول رئيس منتخب ديمقراطيا في مصر، محمد مرسي، وهو ما يرمز إلى الفوضى في “عصر ما بعد مبارك”.
عندما تولى السيسي منصبه في يونيو 2014، كان إيجاد فائض في قدرة توليد الطاقة وإعادة بناء شبكة الكهرباء المتدهورة من بين أهدافه الأولى. وعلى مدار ما يقرب من عقد من الزمان، بدا الرئيس الجديد ناجحا تماما في هذا الصدد.
أحد العناصر الأساسية في استراتيجية معالجة أزمة الطاقة هو بناء ثلاث محطات تعمل بالغاز الطبيعي بقدرة 4.8 جيجاوات. وبمجرد الانتهاء منها في عام 2018، كانت محطات كهرباء بني سويف والعاصمة الجديدة والبرلس، التي تديرها مجموعة سيمنز الألمانية، تمثل ما يقرب من 40% من قدرة توليد الطاقة في مصر وتوفر الكهرباء لنحو 40 مليون مواطن. وفي عام 2015، بدأت مصر أيضًا في استيراد الغاز الطبيعي المسال لأول مرة في تاريخها، حيث قامت بإرساء وحدتين عائمتين للتخزين وإعادة التحويل في العين السخنة بخليج السويس.
حدث “تغيير كبير في ثروات مصر من الطاقة” في عام 2015، عندما أعلنت شركة إيني الإيطالية عن اكتشاف حقل ظهر، وهو حقل للغاز الطبيعي بسعة 850 مليار متر مكعب قبالة الساحل المصري. وقد مكن دخوله حيز التشغيل بعد عامين البلاد من استعادة مكانتها كمصدر صافي للغاز، في شكل غاز المسال. وقد عزز هذا التطور الحاسم تطلعات مصر لتصبح “مركزًا إقليميًا للطاقة”، ومنصة لتجارة الغاز، سواء المنتج محليًا أو المستورد من الدول المجاورة ليعاد تصديره، حيث أن مصر هي الدولة الوحيدة في شرق البحر الأبيض المتوسط التي تتمتع بقدرة على التسييل.
إن اكتشاف حقول غاز جديدة مع عقد اتفاقية مع إسرائيل لاستيراد وإعادة تصدير الغاز في عام 2020، وإعادة فتح منشأة تسييل الغاز بدمياط، ودور مصر كعضو مؤسس ودولة مضيفة لمقر منتدى غاز شرق المتوسط دعم طموحات القاهرة بشكل أكبر.
علاوة على ذلك، فإن اهتمام الاتحاد الأوروبي المتزايد بالغاز الطبيعي من جنوب البحر الأبيض المتوسط، خاصة بعد اندلاع الحرب الأوكرانية، والحاجة إلى تقليل الاعتماد على روسيا في مجال الطاقة، قدم دفعة كبيرة أخرى لتطلعات مصر في مجال الغاز.
وفي يونيو 2022، وقع الاتحاد الأوروبي اتفاقية مع مصر وإسرائيل لزيادة إمدادات الغاز. في العام الماضي، صدرت مصر 8.5 مليون طن من الغاز الطبيعي المسال، لتحتل المرتبة الثانية عشرة بين أكبر الدول المصدرة في العالم، وللمرة الأولى، ذهب ما يقرب من 60% من إنتاجها من الغاز الطبيعي إلى أوروبا، وهو ما يلبي حوالي 4% من الطلب الأوروبي على الغاز الطبيعي المسال. بالإضافة إلى ذلك، أكد التركيز المتزايد على التحول للطاقة الخضراء والكهرباء المستدامة على الأهمية المحتملة للبلاد كمركز لتجارة الكهرباء مع الدول المجاورة، من مجلس التعاون الخليجي إلى جنوب أوروبا.
على الرغم من هشاشة قطاع الطاقة المصري منذ فترة طويلة، يبدو أن التحسينات الأخيرة عززت الآمال في تحويل البلاد إلى مركز إقليمي للطاقة. ومع ذلك، بعد مرور ما يقرب من عقد من الزمن على أزمة الطاقة الكبرى السابقة، ومع وجود 15 مليون مواطن إضافي، تواجه مصر مرة أخرى انقطاع التيار الكهربائي. إن عودة قضايا الطاقة هذه تهدد بتقليص الآفاق الواعدة لطموحات القاهرة في مجال الطاقة.
لقد أثر انقطاع التيار الكهربائي الحالي على البلاد بشكل غير متساو، حيث لا يتأثر كل جزء من مصر بنفس الطريقة. فالمباني الاستراتيجية والمستشفيات لا تنقطع عنها الكهرباء، كما أعطت الحكومة أيضًا الأولوية لإبقاء الأنوار مضاءة في المناطق السياحية مثل قرى ساحل البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر. ويهدف هذا القرار إلى حماية قطاع السياحة، الذي يشارك بحصة كبيرة في احتياطيات مصر من العملات الأجنبية. لكن هذا النهج أثار استياء واسع النطاق. لا يرى الكثيرون أن الخطة الوطنية لخفض الأحمال هي خطة “وطنية” بشكل حقيقي؛ بل يُنظر إليها على أنها تتجاهل بشكل غير عادل الأحياء الثرية وتُطبق على المناطق الفقيرة المكتظة بالسكان، مما يخلق شعورا بعدم المساواة والتمييز الاجتماعي. وعلى الرغم من هذه الانتقادات، تدافع الحكومة عن الخطة بمبرر الحاجة الملحة للعملة الصعبة التي تجلبها السياحة الأجنبية.
بدأ انقطاع التيار الكهربائي بشكل عام في أواخر يوليو 2023، وكان سببه مزيج من زيادة استهلاك الغاز في المنازل بسبب موجات الحر الطويلة وتراجع الإنتاج المحلي للغاز. تشمل الأسباب الكامنة وراء هذا الانخفاض في الإنتاج، من بين أمور أخرى، إلى تدهور البنية التحتية ومشاكل تسرب المياه إلى حقل غاز ظهر الذي بلغ حجم الإنتاج به 2.3 مليار قدم مكعبة يوميًا في يوليو منخفضا من 2.7 مليار قدم مكعبة يوميًا في عام 2019. ووفقا لشركة “فيتش للحلول”، سينخفض إنتاج مصر من الغاز في عام 2023 إلى 64.9 مليار متر مكعب، وهو أدنى مستوى خلال ثلاث سنوات، في حين ستنخفض صادرات الغاز الطبيعي السنوية من 11.3 مليار متر مكعب في عام 2022 إلى 10.8 مليار متر مكعب هذا العام. وهو ما انعكس حتى قبل أزمة انقطاع التيار الكهربائي على توقف الشحنات المصدرة إلى أوروبا في يونيو الماضي.
على هذه الخلفية، تعتبر صادرات الغاز الطبيعي المسال ضرورية لتوفير العملة الأجنبية في مرحلة تحتاج إليها مصر بشدة. علاوة على ذلك، فإن الأزمة معرضة للتفاقم، حيث أن نقص الدولارات يعقد عملية استيراد المازوت المطلوب للحفاظ على تشغيل محطات الطاقة في البلاد.
هل تعمق الحرب بين إسرائيل وغزة الظلام؟
تهدد الحرب في غزة بمزيد من التدهور في الوضع غير المستقر لنظام الكهرباء المصري، مما سيكون له تأثير كبير على “قدرة القاهرة على إبقاء الأنوار مضاءة”. وفي الواقع، فإن واردات الغاز الطبيعي من إسرائيل تلبي الطلب الداخلي المصري وتكفل التصدير من محطات تسييل الغاز المصرية. وأثارت الحرب التي بدأت في 7 أكتوبر مخاوف من أن يؤدي استمرار الصراع لفترة طويلة إلى وقف تدفق الغاز من إسرائيل إلى مصر.
تستقبل مصر الغاز من إسرائيل من خطي أنابيب، الأول هو خط أنابيب غاز شرق البحر الأبيض المتوسط البحري (EMG)، الذي يربط عسقلان مع العريش في مصر، ويقع على بعد بضعة أميال فقط من سواحل قطاع غزة، والثاني هو خط أنابيب الغاز العربي بفضل العلاقة بين إسرائيل والأردن.
بعد بداية الحرب، قررت السلطات الإسرائيلية إيقاف تدفق الغاز بشكل كامل من خط أنابيب غاز شرق المتوسط. وقد أدى الانقطاع إلى آثار فورية كبيرة، بما في ذلك زيادة مدة انقطاع التيار الكهربائي اليومي في مصر من ساعة إلى ساعتين، واستئناف مصر لواردات الغاز الطبيعي المسال لأول مرة منذ خمس سنوات. ومع ذلك، تم التراجع عن كلا الإجراءين عندما شهدت واردات الغاز من إسرائيل انتعاشًا جزئيًا.
بعد انقطاع دام شهرًا، استأنف حقل غاز تمار الإسرائيلي، الذي يزود خط أنابيب غاز شرق المتوسط، الإنتاج في 9 نوفمبر. وانتعش إنتاج الغاز الإسرائيلي بسرعة، واستؤنف النقل عبر خط أنابيب غاز شرق المتوسط بعد خمسة أيام.
تبلغ أحجام الغاز المنقولة بين إسرائيل ومصر الآن 800 مليون قدم مكعب يوميا، أي أقل بقليل من مستويات ما قبل الصراع. ومع ذلك، وبينما استؤنفت صادرات الغاز الطبيعي المسال في 21 نوفمبر مع تصدير محطة تصدير الغاز الطبيعي المسال في إدكو أول شحنة لها منذ اندلاع الحرب في غزة، ورغم ذلك استمر انقطاع التيار الكهربائي.
هل يمكن للطاقة الخضراء أن تعيد الإضاءة؟
يعتمد توليد الكهرباء في مصر بشكل كبير على الغاز الطبيعي بنسبة 66%. وللحد من هذا الاعتماد، ومنع انقطاع التيار الكهربائي بسبب نقص الغاز، وإتاحة المزيد من الغاز للتصدير، وتنويع مصادر الطاقة التي تزود شبكتها بالطاقة، قررت الحكومة الاستثمار في تطوير مصادر الطاقة المتجددة.
ففي العام الماضي، عندما استضافت شرم الشيخ المؤتمر السابع والعشرين للمناخ (COP27)، بدا أن الطموح في أن تصبح مصر “بطلة المناخ” يتخلل العديد من أبعاد السياسة الداخلية والخارجية للبلاد، بدءًا من سياسات الطاقة إلى العلاقات مع الدول الأوروبية والأفريقية والخليجية وكذلك مع الجهات المانحة الدولية.
وفي الواقع، تعد مصر من بين الدول الأكثر تقدمًا في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا فيما يتعلق بتنفيذ تحول الطاقة. فبقدرة توليد تبلغ 6.2 جيجاوات، تحتل مصر المرتبة الأولى في شمال أفريقيا من حيث القدرة الكهربائية المولدة من الطاقة الشمسية وطاقة الرياح والهيدروجين.
هناك مجموعة واسعة من الخطط التي تدعم تحول الطاقة، مثل رؤية مصر 2030، والاستراتيجية الوطنية لتغير المناخ 2050، والاستراتيجية المتكاملة للطاقة المستدامة 2035، التي حددت هدف الطاقة المتجددة بالوصول بها إلى نسبة 42٪ من إجمالي إنتاج الكهرباء بحلول عام 2035. ومع ذلك، فإن الطاقة المتجددة بلغت من إجمالي قدرة الكهرباء إلى 10.6% في عام 2022، وهو أقل بكثير من هدف العام الماضي، المحدد بـ 20% من قدرة التوليد.
بالإضافة إلى ذلك، لدى البلاد طموحات قوية في مجال الهيدروجين الأخضر. فقد أُعلن عن الشروع في بناء مجموعة كبيرة من منشآت إنتاج الهيدروجين الأخضر والأمونيا الخضراء بمناسبة انعقاد مؤتمر الأمم المتحدة المعني بتغير المناخ (COP27)، ووُقعت العشرات من مذكرات التفاهم مع العديد من الشركات الأجنبية.
ومع ذلك، كانت جدوى مثل هذه “الحزمة من المشاريع” موضع تساؤل في العام الماضي عندما أظهرت العديد من الدراسات أن البلاد تحتاج إلى أكثر من خمسة أضعاف إجمالي القدرة المتجددة المسجلة حتى الآن. وفي الواقع، لم يتحقق سوى القليل جدًا بعد مرور عام على مؤتمر المناخ.
فحتى الآن، فقط المنشأة التجريبية “إيجيبت جرين”، التي يديرها تكتل مكون من شركة أوراسكوم للإنشاءات من مصر، وفيرتيجلوب من الإمارات، وسكاتيك من النرويج، هي الوحيدة التي باعت الأمونيا الخضراء إلى الذراع الهندية لمجموعة يونيليفر الهولندية، لتستخدمها في إنتاج بودرة الصودا التي تدخل في صناعة مساحيق الغسيل). في المقابل، فإن احتمال تطوير المرحلة الأولى الكامل” من المشروع، المقرر أن تنتج ما يصل إلى 90 ألف طن سنويًا من الأمونيا الخضراء، قد تأجلت إلى أجل غير مسمى.
على الرغم من بناء مزارع متميزة للطاقة الشمسية وطاقة الرياح، وتنفيذ تحول في الطاقة – وإن كان بطيئًا- والتوقعات المتفائلة بشأن بناء منشآت الهيدروجين الأخضر، يبدو من غير المحتمل اليوم أن تساهم مصادر الطاقة المتجددة المصرية في تخفيف أزمة الطاقة على المدى القصير.
وفي خضم الأزمة الاقتصادية الحادة، والحرب المستمرة في غزة، وعدم القدرة على التنبؤ الجيوسياسي في منطقة الشرق الأوسط الأوسع، فإن انقطاع التيار الكهربائي ونقص الغاز الطبيعي يزيد من التحديات. فقد واجهت مصر ثلاث تخفيضات في قيمة العملة في أقل من عام، وارتفع التضخم ليبلغ 37.1% في أكتوبر، كما توجد أزمة ديون حادة، ونحو ثلث سكان مصر البالغ عددهم 105 ملايين نسمة يعيشون تحت خط الفقر. ويبدو أن هذه العوامل مجتمعة ترسم مستقبلًا اقتصاديًا مظلمًا للبلاد.
كيف يمكن إنهاء انقطاع التيار الكهربائي الحالي في مصر؟ كيف ستؤثر هذه التحديات على طموح البلاد في أن تصبح مركزًا إقليميًا للطاقة؟ هل هناك خطر من أن تفقد مصر مكانتها كمُصدر صافي للغاز الطبيعي المسال؟
هذه مجرد أمثلة قليلة من القضايا الأكثر إلحاحًا التي يجب معالجتها خلال فترة ولاية السيسي الجديدة. ستتوقف الإجابات على هذه التحديات إلى حد كبير على عوامل مختلفة، بما في ذلك مدى الاتساع المحتمل للصراع في غزة، ومدى استعداد الشركاء الدوليين والمانحين لدعم الاقتصاد المصري، وتنفيذ الإصلاحات الاقتصادية الهيكلية، وضخ الاستثمارات في قطاع الطاقة، بما في ذلك تحديث شبكات الكهرباء ورفع كفاءتها. ورغم أنه من السابق لأوانه أن نجزم بما إذا كانت الحكومة المقبلة قادرة على معالجة المخاوف المرتبطة بالطاقة بشكل فعّال، فإن قدراً كبيراً من شرعيتها ومصداقيتها المحلية سوف يعتمد في الأرجح على قدرتها على تلبية العديد من القضايا المرتبطة بالطاقة.